[align=center][/align]
بقلم الأديب الكبير علي الطنطاوي رحمه الله تعالى
----------------------------------------------------
[align=center][ إلى السيدة الفاضلة ، التي كتبت إلي ، وكتمت اسمها عني ، ونعما فعلت ، فما لي باسمها حاجة ، بعدما فهمت ما في كتابها ][/align]
[align=center]وأنا أحب أن تصدقي يا ابنتي (أو يا أختي) أني لما قرأت كتابك بكيت معك. وشاركتك حزنك ، وأني قرأته على أصحابي فبكوا منه مثل بكائي.
إنها فاجعة ، ولكنك لست أول من فرق الموت بينه وبين من يحب ، ولست أول أم فقدت بنتها ، ومن عرف أن له في مصيبته شركاء ، ولهذه المصيبة أمثال خف عنه بعض ما يلقى.
إن كتابك على عامية ألفاظه ، وعلى أنه ليس فيه كلمة صحيحة ، لا في رسمها ولا في إعرابها ، إنه على هذا كله – قطعة فنية ، قليل أمثالها.
إنك استطعت أن تستنزلي به الدمع ، من عيون طائفة من أعلام الأدب ، وكم من الشعراء الذين يرثون ، فلا يستقطرون قطرة من دمع قارئ أو سامع ، لأنهم ما بكوا لما نظموا.
ذلك ليعلم طلاب الأدب ، أن الذي يخرج من القلب هو الذي يقع في القلب ، وأن من يمتلكه المعنى الذي يكتب فيه ، هو الذي يملك به الذين يقرأونه ، أما الذي ينحت الألفاظ من أعماق القاموس بالمعول ، ليكومها على الورق بالمجرفة ، فهو (عامل) في إصلاح الطرق وليس صائغاً لجواهر الكلام.
ولست أدعو إلى العامية ، ولا إلى نبذ البلاغة ، وإهمال القواعد ، معاذ الله ، ولكن أدعو إلى امتلاء النفس بالفكرة قبل تحريك القلم على القرطاس.
والعفو ، يا ابنتي ، إذا انصرفت عن جوابك ، وتكلمت في الإنشاء ، فإنما جاء ذلك استطراداً والصناعة تميل بطبع الإنسان ، والاستطراد من شأن الأديب العربي.
فهمت من كتابك أنك من مكة ، لأنك تقولين أنك لم تعودي تستطيعين دخول الحرم ، بعد ذهاب الفقيدة ؟
فما هذا الكلام يا ابنتي ؟
إن فقدت ابنتك ، فهل فقدت (والعياذ بالله) إيمانك ؟
في مثل هذه المواقف : مواقف الحزن واللوعة ، يعرف المؤمن قيمة هذه النعمة التي هي الإيمان.
الملحد الذي لا يرى إلا هذه الحياة الدنيا يُجن إن مات له عزيز ، أو ينتحر ، إنه يتصور أنه كان له ففقده ، وكان معه ففارقه إلى الأبد.
إما المؤمن فيعلم أن الله هو الذي أعطى ، وهو الذي أخذ ، وأن بعد هذا الفراق لقاء ، حيث يلتقي الصالحون في الجنة ، فهو يجتهد ليكون من أهل الصلاح ، ويسأل الله أن يرحم ميته ويجعله من أهل الصلاح ليكون هذا اللقاء لقاء دائماً سعيداً لا فراق بعده.
هذا هو الفرق بين المؤمن والكافر – فأين إيمانك ؟
اسمعي يا ابنتي :
لو أن الفقيدة – رحمها الله – ذهبت تزور خالتها أو جدتها ، وبقيت عندها شهراً ، هل كنت تخافين ، أم تطمئنين عليها ، لأنها في رعاية أختك أو أمك ؟
هل كنت تبكين ، وتعولين لذهابها ، أم ترضين وتسرين لثقتك بمن هي ذاهبة لزيارتها ؟
فلماذا لا تطمئنين عليها ، وأنت مؤمنة تعتقدين أنها ذهبت إلى رحمة من هو أرحم منك بها ، وهو الله الذي خلقك وخلقها ؟
أنا أعلم أن هذا الكلام الذي أقوله حق كله ، ولكن من كان مصاباً مثلك لا يفهمه ، ولا يدخل في عقله ، ويجده ثقيلاً على قلبه ، فدعيه واشتغلي بشيء يملأ وقتك ، بعمل من الأعمال ، بدلي منزلك وانتقلي إن استطعت إلى منزل آخر ، لأن بقاءك في المنزل الذي كانت فيه الفقيدة يهيج عليك أحزانك.
إن كل ركن منه ، وكل شيء فيه يذكرك بها ، فإن بدلته أو تركته وسافرت ، فابتعدت عنه حيناً ، خف عليك لذع الذكريات.
تحدثي عنها ، قولي لمن معك كل ما يخطر منها على بالك ، حملي من حولك بعض أحزانك ، لا تنطوي على نفسك ، وهي على ظهرك فتنفردي وحدك بحملها.
لذلك كان من المستحسن عند التعزية ، الكلام عن الميت لينفس أهلوه عن أنفسهم بهذا الكلام ، والخوض في غيره من الموضوعات لينسوا بها لحظة ما هم فيه من الأحزان.
أما ما يصنعه النساء عندنا (في الشام) في المآتم مما لم يرد به شرع ، ولم يسوغه عقل ، إذ يصطف قريبات الميت حتى يملأن المكان ، ولا يبقين إلا كرسياً أو كرسيين ، للمعزيات ، تدخل المعزية ، بلا سلام ، وتقعد لحظة بلا كلام ، ثم تنسل خارجة بلا وداع فشيء من أقبح العادات.
إن الكلام ينفس عن المصاب فتكلمي ، والشغل يلهي عن الحزن فاعملي ، والسفر والانتقال ، يمنع سيل الذكريات الأليمة فانتقلي أو فسافري ، وإن عرض لك البكاء فابكي ، لا تخجلي.
أما سمعت بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم لما أرسلت إليه إحدى بناته أن ولدها يجود بنفسه ، وتسأله الحضور ، فأرسل إليها أن اصبري واحتسبي ، فأعادت الطلب حتى ذهب ، فلما رأى الولد وهو يضطرب اضطرابات الموت ، ولم يستطع أن يمسك عينه فبكى صلى الله عليه وسلم.
ابكي فالبكاء سلوة المحزون ، ولكن لا تقولي ما لا يرضاه الله من القول.
تقولين : إن ابنتك التي كنت تخافين عليها النسيم ، أن ينال منها مس النسيم وتذبين عنها الذباب ، كيلا يؤذيها حط الذباب.
... قد وضعت في التراب ، وداخلها دود الأرض وأنك تركتها وحيدة ، وقد كنت لا تتخلين لحظة عنها .
فما هذا الكلام يا أيتها المرأة ؟ البنت وضعت في التراب ؟
لا ... إن الجسد هو وحده الذي وضع في التراب ، ورتع فيه الدود.
وما الجسد ؟ الجسد قميص فهل كنت تبكين وتعولين إن نزعت قميصها البنت ، فاحرق بالنار القميص ؟
صحيح أن الجسد جزء منا ، ولكن في هذه الدنيا فقط ، ألم تكن المشيمة جزءاً من الجنين ، ثم إذا ولد ألقيت في صندوق القمامة !
أفتبكي الأم لأن ولدها نزع عنه مشيمته وألقاها ؟
ولو كان في بطن الحامل توأمان اثنان ، يعيشان فيه معاً وأمكن أن يفكرا ، لاعتقدا أن البطن هو الدنيا.
ولو جاءت ساعة الولادة وسبق واحد منهما ، ورآه الثاني ، يفارقه ويغوص في الأعماق ، لظن أنه مات ودفن في باطن الأحشاء ولبكى عليه ورثاه.
ولو ترك مشميته وراءه لحزن الباقي لمرآها كما نحزن نحن إذ نرى جسد الميت.
هذا هو مثال الموت :
إن الذي اعتقده التوأم موتاً ، إنما هو ولادة وخروج إلى عالم أرحب وأوسع ، عالم لا يقاس به البطن وضيقه وظلامه.
وما نراه نحن موتاً ، إنما هو (ولادة) وخروج إلى عالم آخر ، إذا قسناه بهذه الدنيا، رأينا نسبته إليها كنسبة الدنيا إلى بطن الحامل.
هل سافرت مرة من جدة إلى مكة ؟ إنك تنظرين فلا ترين من الطريق إلا خطاً قصيراً ، ولكن الطريق أطول مما ترين ، وما خفي وراءك مما قطعت ، وما بقي أمامك مما لم تقطعي ، لأكثر مما ظهر.
وكذلك طريق الحياة..
إننا نرى منه خطاً قصيراً ، هو هذه الحياة الدنيا ،التي نعيش فيها وما خفي عنا أكثر.
الحياة أربع مراحل..
مرحلة الحمل في بطن الأم ، ومرحلة الدنيا ، ومرحلة البرزخ ، ومرحلة الآخرة.
ونسبة كل واحدة لما قبلها ، كنسبة ما بعدها إليها.
لو أمكن أن تخاطب الجنين في بطن أمه ، وتسأله : ما هي الدنيا ؟ لأجابك أن الدنيا هي هذه الأحشاء المظلمة الضيقة.
فلو قلت له : إن ها هنا ، دنيا أوسع ، فيها الأفق الممتد ، والبحر العريض ، والسهل الفسيح ، والجبل العالي.
وفيها جمال الربيع ، وصفاء الينبوع ، وفتنة الجمال وسحر العيون ، ونشوة الحب.
لما استطاع أن يفهم لذلك كله معنى.
وكذلك نحن إذا سمعنا وصف الحياة الآخرة ، وما أعد الله فيها ، من ألوان النعيم ، وأفانين العذاب.
لا تقولي ، إني أتفلسف عليك ، فإن الذي أقوله صحيح ، وأنا لا أملك لك مع الأسف إلا الكلام.
أنا لا استطيع أن أنتزع أشواك الحزن من قلبك ، ولكن أنت تستطيعين .
تقولين : كيف ؟
بالرجوع الذي يقلب القلوب ، ويبدل الأحوال ، إلى الله الذي يحول بين المرء قلبه.
توجهي إليه ، فاسأليه لك الصبر ، والأجر ، ولها المغفرة والعفو ، واسأليه أن يجمعك بها في دار النعيم ، يوم يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب.
انظري الأكلة التي كانت تحبها ، فاصنعيها وجوديها وتصدقي بها عن روحها.
انظري الثوب الذي كانت تؤثره ، فجودي به على من يستحقه وهبي ثوابه إليها.
هذا الذي ينفعها عند ربها ، ويخفف عنك من حزنك عليها. هذا وأنا أسأل الله أن يرزقك الصبر ويجزل لك إن صبرت الأجر.[/align]
المرجع : صور وخواطر للأستاذ علي الطنطاوي ، ص 274
[align=center]تقبلو ودي وتقديري ،،[/align]