وأما من عرف الحق وقامت عنده الحجة عليه ولكن هذا الحق مخالف لهواه ولمصالحه وكانت مصالحه هي أولوياته في هذه الحياة الدنيا فخالف الحق وصدف عنه موافقة لأهوائه فهو من أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد ولقد قال الله في حقهم: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام].
فهذا النضر بن الحارث بن علقمة وقد كان من شياطين قريش فقد تكلَّم عن سيد الخلق صلى الله عليه وسلم فقال: (يا معشر قريش إنه والله نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد، قد كان محمد فيكم غلاماً حدثاً أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثاً وأعظمكم أمانة حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم به قلتم ساحر... لا والله ما هو بساحر لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم وقد قلتم كاهن... لا والله ما هو بكاهن لقد رأينا الكهنة وتخالجهم وسمعنا سجعهم... وقلتم شاعر لا والله ما هو بشاعر قد رأينا الشعر سمعنا أصنافه كلها هزجه ورجزه... وقلتم مجنون لا والله ما هو بمجنون... لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه... يا معشر قريش فانظروا فيه شأنكم فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم)، لقد وصف فصدق في وصفه ولكن وصفه هذا مع علمه الأكيد بصدق دعوة المصطفى لم يغن عنه من الله شيئاً عندما علم الحق... ثم أخذته العزة بالإثم وصدف عن الحق.
وصدق الله العظيم: وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ {204} وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ {205} وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ .
وهذه الآيات نزلت في الأخنس بن شريق واسمه أبي كان رجلاً حلو القول والمنظر فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأظهر الإسلام وقال: الله يعلم أني صادق... ثم هرب بعد ذلك فمر بزرع وبحمر فأحرق الزرع وعقر الحمر.
وقال قتادة ومجاهد نزلت في كل مبطن كفراً ونفاقاً أو كذباً أو إضراراً... وهو يظهر بلسانه خلاف ذلك وهي كما ورد في الترمذي: (إن من عباد الله ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمر من الصبر يلبسون للناس جلود الضأن... من اللين يشترون الدنيا بالدين يقول الله تعالى: أبي يغترون وعلي يجترئون، فبي حلفت لأتيحن لهم فتنة تدع الحليم منهم حيران).
وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ أي أخذته العزة بأن يعمل الإثم، وذلك الإثم هو ترك الالتفات إلى هذا الواعظ وعدم الإصغاء إليه (أخذته العزة) أي لزمته كما يقال:... أخذته الحمى يعني لزمته, أخذه الكبر أي اعتراه... فإذا قيل له اتق الله لزمته العزة الحاصلة بالإثم الذي في قلبه. وإن تلك العزة إنما حصلت بسبب ما في قلبه من مرض الجهل أو الكبر وعدم النظر يشرح ذلك قول الحق سبحانه وتعالى: بل الذين كفروا في عزة وشقاق [ص] ومن كلام العرب... (من عزً بز) يعني من غلب سلب وقول الحق سبحانه: وعزني في الخطاب [ص] يعني غلبني. وهذه الحالة من أمراض القلب التي تشبه الحمى ربما تعتري المؤمن في لحظة أو موقف لكنه سرعان ما يؤوب ويرجع في قول الحق: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ [الأعراف]. أما من استقر على حاله وداوم عليه فإن حاله حال إظهار خلاف ومباينة فهم في أنفسهم رؤساء وأكابر أو ما يظنه الإنسان في نفسه من الأحوال التي تمنعه من متابعة الغير... وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ بالشقاق وهو إظهار المخالفة وجهة المساواة للمخالف أو الفضل عليه وهو مأخوذ من الشق كأنه يرتفع عن أن يلزمه الانقياد له بل يجد نفسه في شق... فيريد أن يكون في شق نفسه ولا يجري عليه حكم خصمه فإذا قلت له مهلاً ازداد إقداماً على المعصية.
وهذا ما فهمه أمير المؤمنين هارون الرشيد عندما وقف يهودي كانت له حاجة على بابه فلم يقض حاجته فوقف يوماً على الباب فلما خرج هارون الرشيد سعى اليهودي حتى وقف بين يديه وقال: اتق الله يا أمير المؤمنين... فنزل عن دابته وخر ساجداً... فلما رفع رأسه أمر بحاجة اليهودي فقضيت فلما رجع قيل له يا أمير المؤمنين نزلت عن دابتك لقول اليهودي... قال لا ولكن تذكرت قول الله تعالى:
وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ