(المقابلة ما بين الدنيا والآخرة)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
- ( ما الدنيا في الآخرة، إلا مثلُ ما يجعل أحدكم إصبعه هذه – وأشار يحيى [بن سعيد] بالسبابة – في اليم، فلينظر: بم يرجع ؟) [مسلم/في الجنة/باب فناء الدنيا]
هذه مقابلة بين الدنيا والآخرة، يتضح منها: أن الدنيا في مقابل الآخرة، هي بقدر ما يعلق بالأصبع من الماء، إذا أدخل في البحر، وأن الآخرة هو البحر كله.. فكم سيكون قدر الدنيا ؟.
لكن موضوع المقابلة في قوله: ( ما الدنيا) ما هو ؟.
- أهي مقابلة في الكمية (= المدة الزمنية).
- أم مقابلة في الكيفية (= الحال).
- أم مقابلة في الحقيقة والماهية (= المنزلة والشرف) ؟.
حتى نضع أيدينا بدقة على موضوع المقابلة، لدينا وفرة في النصوص، في بيان العلاقة بين الدنيا والآخرة، فلننظر فيها فيما يلي:
* * *
1- مقابلة في الكمية (= المدة الزمنية).
في نصوص القرآن الكريم نجد آيات تحدد مدة الدنيا تقديرا، يقول الله تعالى:
- {كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عيشة أو ضحاها}.
- {كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار..}.
- {ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم}.
الأزمنة المذكورة هي: عشية أو ضحاها.. ساعة من نهار.. ساعة من النهار يتعارفون بينهم.
العشي أو الضحى قد يكون ساعة، وقد يكون أكثر من ساعة من نهار، وساعة التعارف أقل من مطلق الساعة.. وهكذا تختلف صيغ التعبير عن المدة، وليس فيها نسخ، بل لأجل التقليل، كأنك تقول: هي ساعة، لا بل دون ذلك، لا بل أقل.. أو تقول: هو يوم.. هو نهار.. هو ضحى.. فأنت في كل ذلك صادق؛ لأنها جميعها تطلق ويراد بها وقتا قصيرا.
ومقصوده التأثير في السامع والقارئ:
إذا عرف أن الدنيا بكمالها لا تعدو قدر عشية أو ضحاها، راعه وأيقظ قلبه.
فإذا علم أنها دون ذلك، تجدد عنده الرهبة والفكر.
فإذا علم أنها دون ذلك، زهد وأناب ووقر في قلبه الإقبال على الآخرة.
فكيف بزمن كله من أوله إلى آخره، بكل ما فيه وما يحتويه، إنما يقدر بمدة ما يقابل فيها الإنسان آخر، فيتعرف إليه، ويعرفه بنفسه، ثم يمضي هذا في سبيله، وهذا في سبيله ؟.
فلا موعظة أبلغ من هذا، في بيان مدة بقاء الدنيا مقابل الآخرة.
فالآيات قدرت عمر الدنيا في الآخرة، بهذه اللحظة اليسيرة من الدنيا.. هذه اللحظة تقدر عندنا بآلاف السنين، على ما روي، فكيف بالآخرة التي لا تقدر بزمن.. هي لا نهاية لها ؟.
فالمثال مشابه لا مماثل مطابق؛ إذ الدنيا لها نهاية، كذلك مثالها الماء يعلق بالأصبع ثم يجف، أما الآخرة فلا نهاية لها، ومثالها البحر فله نهاية وحدّ، ولا يلزم في الأمثلة التطابق؛ لأنها تضرب للتقريب.
نخلص إلى أن موضوع المقابلة هنا هو في: المدة (=الكمية). وقد ثبت فيها فضل الآخرة، وبذلك يمكن تفسير الأثر به، فيكون المعنى على ما يلي:
ما مدة بقاء الدنيا في مقابل مدة بقاء الآخرة، إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم. فلينظر بم يرجع.
فما يعلق بالإصبع من ماء لا يبقى زمنا، بل يزول سريعا، وماء البحر يبقى أزمانا فلا يزول.
2- مقابلة في الكيفية (= الحال).
جاء وصف حال الدنيا في آيات عديدة، في سورة يونس، الكهف، الزمر، الحديد، نختار قوله تعالى:
- {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد، كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور}.
هذه هي الدنيا باختصار: لعب، ولهوٌ، وزينة، وتفاخر، وتكاثر في الأموال والأولاد. مثلها كنبات اهتز وربى، وأرض ازينت بكل زينة وزخرف، بعد ما أصابها المطر، ثم قل المطر، فاصفرّ الزرع، فكان حطاما، ثم هشيما تذروه الرياح، أو اجتاحته عاصفة أو إعصار، فصار حصيدا.
هكذا هي الدنيا في حالها؛ تقلبها بأهلها، وتبدلها من السعة إلى الضيق، ومن السرور إلى الأحزان.. والآخرة غير ذلك للمؤمن، لا تتغير ولا تنقص، بل تزيد من حسن إلى أحسن. إلا الكافر.
- قال صلى الله عليه وسلم: (الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر).[مسلم/الزهد والرقاق2956]
موضوع المقابلة هنا: الحال. ويتضمن المدة أيضا؛ فالزرع من حين يربو ويهتز، حتى يصفر يحتاج إلى بضعة أشهر لا تزيد، فأين عمره هذا من عمر الدنيا، الذي هو آلاف السنين ؟.
والربط بين الحال والمدة هنا مقصوده، هو: سرعة زوال نعيم الدنيا وتغيرها على أهلها. وبه يكون تفسير الأثر به على ما يلي:
ما حال الدنيا، في سرعة تغيرها وزوال نعيمها على أهلها، في مقابل بقاء وثبات نعيم الآخرة، إلا كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع ؟.
فما يعلق بالإصبع من اليم يتغير سريعا، وماء البحر باق لا يتغير.
* * *
نوع آخر من المقارنة في الحال، قال صلى الله عليه وسلم:
- (موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها). [البخاري/الرقاق/ باب: مثل الدنيا والآخرة]
قدر موضع السوط: خط طويل في الأرض، لا عرض له. فلو جمع بالحساب لكان مجموع مساحته مربع صغير لا يتجاوز سنتيمترات. فهذه كيفية الدنيا في الآخرة، تختزل جميع ما فيها من جنات، وأنهار، وزخرف، ومباهج، ورفاهية، وترف. في مساحة صغيرة جدا، لا تكاد ترى بالنظر إلى جنة عرضها السموات والأرض. قال تعالى:
- {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين}.
وبهذا يمكن أن يفسر الأثر كما يلي:
ما جنات، وزخرف، ومباهج، ونعيم الدنيا في مقابل نعيم الآخرة، إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع ؟.
فما يعلق في الإصبع شيء يسير من هذه النعمة، الذي هو الماء، مقابل مياه البحر الذي لا حد لها.
* * *
والغدوة تكون أول النهار، والروحة آخرها، فزمن كقدر هذا الزمن في سبيل الله، خير من الدنيا بما فيها، لو فرضت الدنيا كلها خالية من أي عمل صالح، سوى هذا العمل: الغدوة أو الروحة في سبيل الله تعالى. ذلك لأن الدنيا لا قيمة لها من دون عمل صالح، قال صلى الله عليه وسلم:
- (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، وعالم ومتعلم) [الترمذي/الزهد/14]
والعمل الصالح هو من الآخرة؛ لأن ثوابه وجزاءه في الآخرة، فحصلت المقارنة بينهما، فمعنى الأثر:
ما أعمال الدنيا، إذا خلصت كلها للدنيا، في مقابل عمل واحد صالح من أعمال الآخرة، إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر: بم يرجع ؟.
فكافة الأعمال الدنيوية، هي في المثال كما يعلق في الإصبع من البحر، وآحاد العمل الصالح كالبحر.
- قال الله تعالى: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءا منثورا}.
- وقال صلى الله عليه وسلم: (من تصدق بعدْل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، وإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها، كما يربي أحدكم فَلُوَّه، حتى تكون مثل الجبل). [البخاري/الزكاة/باب لا يقبل إلا من كسب طيب]
* * *
3- مقابلة في الحقيقة (= الشرف والمنزلة)
في النصوص النبوية بيان لمنزلة الدنيا عند الله تعالى:
- عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالسوق، داخلا من بعض العوالي، والناس كنفتيه، فمرّ بجدي ميت أسك، فتناوله وأخذه بأذنه، ثم قال: (أيكم يحب أن هذه له بدرهم ؟، قالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، ما نصنع به ؟، إنه لو كان حيا، كان عيبا فيه أنه أسك. قال: فو الله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم). [مسلم/الزهد 2957]
- يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة، ما سقى الكافر منها شربة). [الترمذي/ الزهد/ ما جاء في هوان الدنيا]
- (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، وعالم ومتعلم) [الترمذي/الزهد/14]
السؤال الوارد هنا: لم هكذا هي الدنيا عند الله تعالى ؟.
الجواب يتضح، من ملاحظة ما عليه حال الدنيا في الأصل: أن الذي يطغى عليها: الظلمة، والشر، والكفر. وعكسها: النور، والخير، والإيمان قليل، بدليل أن أكثر أهلها ليسوا على الإيمان، قال تعالى:
- { وما آمن معه إلا قليل}، عن قوم نوح.
- {وقليل من عبادي الشكور}، في قصة داود وسليمان.
- {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم}، في قصة داود.
- {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين}، خطاب لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
- {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله..}، كذلك.
- {يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد}، دليل على كثرة أهل النار.
وبعث النار، كما في الأثر، من ألف ينجو واحد، والبقية هالكون..
فلما كانت الدنيا هكذا؛ الشر عليها يطغى، والله لا يحب الفساد، ولا الظلم، ولا الكفر؛ لأجل هذا كانت لا تزن عند الله جناح بعوضة، وهي أهون على الله من جدي ميت أَسَكّ، لا يشترى حيا، دع عنك أن يشترى ميتا.
هذه الأحوال منتفية عن الآخرة، فهي دار رضوان الله تعالى، وفيها يتجلى بملكه، وعظمته، وحكمته، على التمام والكمال، وقد كان الناس لا يعرفون منها إلا القليل، قال تعالى:
- {يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء، لمن الملك اليوم ؟، لله الواحد القهار}.
- {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير}.
- {وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمدلله رب العالمين}، يقولها المؤمنون والكافرون.
في الدنيا أعطى الله عباده تصرفا وملكا واختيار، وطاعة ومعصية، ففيها ما يحب وما لا يحب، وكلها تحت مشيئته، أما في الآخرة فكلها لله تعالى ظاهرا وباطنا، فيها مشيئته ومحبته خالصة.
وعليه فيمكن ترجمة الأثر بما يلي:
ما منزلة الدنيا مقابل منزلة الآخرة، إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع ؟.
* * *