صناعة القرار السياسي الأمريكي .. كيف ؟
قد تختلف الولايات المتحدة الأمريكية ، عن كثير من دول العالم ، كونها دولة حديثة في تكوينها نسبيا ، وهذا سيجعل ذاكرة من يعيش بها تجاه مفهوم الدولة يرتبط بتاريخ تواجده في تلك البلاد ، كما يكون لحجم التضحيات او المغامرة التي قدمها فرد أو مجموعة ، هو وراء شكل نظرته لتقييم السياسات الحكومية ، وهذا يختلف بشكل مؤكد عن شعوب الدول التي لها آلاف السنين في نفس المكان و تعددت روافد ذاكرة الفرد بها وما سيترتب على تلك الذاكرة من تقييم لسياسات حكومته .
ان الوضع في أمريكا ، يشبه وضع مساهمين في شركة واضحة حدود شراكتهم الزمنية ، وانتهوا من خلافاتهم حول نمطية التعايش ، بعد الحرب الأهلية التي تلت الاستقلال . أو قد يكون وضع سكان أمريكا أشبه بوضع اللصوص او الغزاة الذين تمكنوا من بسط نفوذهم على مساحة أرض ، ووجدوا الطريق لإسكات بعضهم البعض ، من خلال اقتسام تلك المساحة ، حسب تاريخ وصول الغزاة وقوتهم .. فوضعوا مسودات لتنظيم حالة التعايش فيما بينهم وجرى تعديلها أكثر من مرة لتضمن حالة السلم فيما بينهم .
ان تمازج الأذواق والثقافات والرؤى التي تعتمد على ذاكرة المنشأ في الأصل ، فان ابتكار خليط من نتاج المعارف صنع حالة ، كان على القادم الجديد فيما بعد ان يقبل بها أو يسكت عنها ، لكي يضمن لنفسه تحقيق أهدافه التي هاجر من أجلها ناشدا الراحة والمال . من هنا كان للقوى الأصلية التي كانت من أصول أوروبية والتي انصهرت مع بعضها ، كما في حالة جنوب إفريقيا و استراليا وحتى الكيان الصهيوني .. كان لها الكلمة العليا في تحديد معالم سياسات البلاد ، وان أصبحت تداهن الجماعات التي قدمت فيما بعد ، لضمان تصويتها لصالحها .
ان هذا التأسيس للصورة ، قد يصلح أن يكون مؤثرا ، حتى حرب فيتنام ، أما بعد حرب فيتنام والهزيمة التي نجمت عنها ، وفضيحة ووترغيت ، قد أحدث تغييرا ملموسا في قنوات صناعة القرار السياسي الأمريكي .. ونحن إذ نحاول محاولة متواضعة لتتبع تلك القنوات ، نكون قد أسهمنا في الإشارة الى موضوع يكاد لا يطلع شمس نهار على أمتنا الا ونحن على صلة بآثار تلك الدولة .
لقد ظن البعض أن الرئيس الأمريكي هو صاحب القرار الأول والأخير في كل شيء ، وقد ظن الآخرون ان الكونجرس هو ما يصنع كل خطوط السياسة الأمريكية ، وقد ظن البعض ان جماعات الضغط هي ما توحي بشكل تلك السياسات ، وقد يقول قائل أن الصحافة ومعاهد الدراسات المتخصصة هي ما توحي برسم سياسة الحكومة ..
هذا ما سنتتبعه في تلك السلسلة المتواضعة من المقالات .
ـــــــــــــــــــــــ
اسم الكتاب الأصلي : صنع السياسة الأمريكية .. والعرب
المؤلف : د محمد عبد العزيز الربيع
دار النشر : دار الكرمل/ صامد ـ عمان / الأردن
رقم الإيداع/83/2/1990
ملحوظة : كنت قد تدخلت في تصرف في بعض الوقائع التي حدثت بعد نشر الكتاب .
ضوء على الدستور الأمريكي :
استطاع الدستور الأمريكي أن ينظم نمو وحركة مجتمع موزائيكي ممزق ، طحنته الحرب الأهلية و الأحقاد ، ويجعل من أمريكا خلال مائتي عام دولة قوية اقتصاديا وعسكريا و سياسيا . ومن يدري فالعمار في أرض صليخ أكثر توفيقا من إعادة ترميم عمار قائم .
لقد رتب الدستور الأمريكي الأدوار ، وأعطى خصوصية الولاية حقها وضمن حرية الأديان وإطلاق الإبداع ونظم دور كل من سلطات الرئيس والكونجرس والقضاء .. وقد تكون الحرب الأهلية هي التي ألهمت واضعي الصيغ ، ليكونوا حذرين في إيجاد منابت الخلاف المجدد بين سكان تلك البلاد .. وهذه الأريحية وهذا النجاح استهوى صفوة علماء ومبدعين العالم ليهاجروا الى تلك البلاد ليزيدوا من عوامل قوتها .
الرئيس :
أعطى الدستور الرئيس الذي ينتخب كل أربعة سنوات ، ويجوز له الترشيح و إشغال المنصب لدورتين متتاليتين .. الحق في تمثيل البلاد خارجيا وقيادة القوات المسلحة وعقد الاتفاقيات الخارجية وتعيين السفراء وأعضاء محكمة العدل العليا وشن الحروب ، شريطة موافقة الكونجرس بذلك .. أي رغم الصلاحيات الواسعة الا انه ربطها بموافقة الكونجرس .
الكونجرس :
يتكون الكونجرس من مجلسين : النواب و عددهم 435 وتعطى كل ولاية عددا يتناسب مع عدد سكانها فمنها الكثير مثل كالفورنيا ومنها القليل مثل ايوا . أما مجلس الشيوخ فتتساوى الولايات بالأعضاء حيث يكون لكل ولاية عضوان من أصل مائة عضو .
ويجري انتخاب نصف مجلس النواب كل سنتين ، أي أن مدة الدورة الواحدة للعضو الواحد هي أربع سنوات ، ويحق للعضو الترشيح لعدد غير محدود من المرات فهناك من الأعضاء من استمر تسع دورات .. وغالبا ما يعاد انتخاب اكثر الأعضاء ففي عام 1988 أعيد 98% من الأعضاء السابقين .
أما الشيوخ فينتخب منهم الثلث كل سنتين ، أي أن الدورة الواحدة هي ست سنوات وليس أربع كما في مجلس النواب .
ويشرف الكونجرس على وضع الميزانيات ومراقبة الصرف ، من خلال لجانه ، وتنظيم التجنيد ، واستجواب المسئولين ، واقرار الإتفاقيات والسياسة الخارجية .
خلافات حول صلاحيات الرئيس و الكونجرس :
معلوم ان الكونجرس ينتخب بعد أن تقدم الكارتيلات والترستات الإمبريالية مرشحيها وفق أجندة مصالحها المادية ، وحتى ان اتفق ان يكون هؤلاء المرشحون ، ينتمون للحزب هذا أو ذاك ، فان غلبة تقديم مصلحة الكارتيل او الشركة التي تقف وراء هذا المرشح ، والذي قد يفوز بالانتخابات ، على رؤية الرئيس كونه يمثل مجمل الكيان الإمبريالي كمجموع .
وقد بين باحثون أمريكيون كلفهم ريغان عام 1982 بوضع دراسة عن مستقبل أمريكا ، ان عضو الكونجرس يتقاضى ما مجموعه سبعة رواتب ، منها الراتب من الحكومة الفيدرالية و الستة الباقية ، تدفعها جماعات ضغط (لوبي) للعضو سرا لتمرير أو ايقاف بعض مشاريع القوانين التي تفيد او تضر ما تمثله جماعة الضغط نفسها ، وسنأتي على ذكر ذلك بتفصيل أكثر فيما بعد .
لقد تكررت الصدامات بين الرئيس والكونجرس مثلا في الفترة الواقعة بين عامي 1984 و1988 ، ويلاحظ باستمرار ان معظم الخلافات تتم في الدورة الثانية التي قد يحظى بها رئيس أمريكي .
فوقف صفقات بيع سلاح للأردن والكويت والسعودية ، في تلك الفترة ، رغم تيقن الجميع بقوة الروابط بين تلك الدول و الحكومة الأمريكية ، فقد عطلت تلك الصفقات ، نتيجة فعل استثنائي من اللوبي الصهيوني . وهذا ينسحب على إغلاق مكتب منظمة التحرير في نيويورك ، وكذلك طلب الكونجرس بوضع شروط إضافية على المساعدات السنوية لمصر و الأردن .
وعندما أحس الرئيس بحرج موقفه ، لجأ الى حيل قانونية كإبراز اتفاقية اعتماد نيويورك كمقر للأمم المتحدة ومعارضتها لإغلاق مكتب منظمة التحرير ، وهذا ما أوحي للمحكمة الخاصة التي عرضت عليها تلك القضية (الطلب) .
كما لجأ الى حيلة وضع مسودة قرار نقض (فيتو) يسمح للرئيس بتمرير بعض القرارات دون مضايقة الكونجرس ، لكن ريغان فشل في إقناع حتى الجمهوريين بالتنازل عن جزء من صلاحياتهم .
لذا التف الرئيس بحصر بعض النشاطات الاستخبارية و ما تقوم به صرفيات ، لوكالة المخابرات المركزية ، التي تفلت في كثير من الأحيان من رقابة الكونجرس الصارمة .
وزارة الخارجية :
يعتبر وزير الخارجية الشخص الأكثر أهمية بعد رئيس الولايات المتحدة ، وهو الذي يمثل الدولة لدى الكونجرس وهو الذي يدير سياسات الدولة الخارجية ، وهو الذي يدافع عن برامج الدولة في كل المجالات ، وهو الذي يقترح و ينظم برامج المساعدات الخارجية ..
ويساعد وزير الخارجية (25) ألف مساعد ، نصفهم خارج البلاد موزعين على أكثر من (140) سفارة ، و النصف الآخر يقيم في مباني الوزارة داخل الولايات المتحدة .. وتزود وزارة الخارجية الدولة الأمريكية بأكثر من نصف المعلومات اللازمة لإدارة علاقاتها ..
يصدر عن وزارة الخارجية يوميا مالا يقل عن (1000) برقية موقعة من وزير الخارجية ، وتتلقى مثل هذا العدد .. ويشارك ممثلو الوزارة ب ( 12) مؤتمر دولي يوميا ، كما يستقبل ممثلو الوزارة يوميا في مبنى الوزارة و الأمم المتحدة مالا يقل عن (8) وزراء أو سفراء لدول أجنبية ..
وتبلغ ميزانية الوزارة السنوية حوالي (4) مليارات دولار .. تصرف على رواتب العاملين وبعض الشؤون الأخرى .. ويتبع للوزارة وكالة التنمية الدولية والتي تنظم برامج المساعدات للدول الأجنبية . ووكالة الاستعلامات الأمريكية التي تبشر بقيم و ثقافة الولايات المتحدة . ووكالة الرقابة على الأسلحة ونزع السلاح ، وهي الجهاز المسئول عن اتفاقيات الحد من الأسلحة وغيرها ..
رغم أهمية دور وزير الخارجية ، إلا أن هذا الدور كان يتذبذب بين الدور القوي و المحوري كما كان ل( جون فوستر دالاس ) في عهد الرئيس أيزنهاور ، و كذلك ( هنري كيسنجر ) في عهد الرئيس نيكسون .. أو دور هامشي لا يكاد يذكر كما كان في أيام ( شولتز ) في عهد ريغان حيث عين أكثر من أربعين شخصا من أصدقائه في مناصب مهمة ، ولم يكن لهم أدنى معرفة بالشؤون الخارجية ودون علم وزير الخارجية .. أو حتى ( كولن باول) في عهد بوش الحالي ..
و أحيانا ، كان الرئيس يتجاهل وزارة الخارجية بشكل كامل ، ويعتمد على مستشارين من خارجها ضمن عقود تربط معه مباشرة ، كما حدث في عهد الرئيس ( ترومان ) عندما وقفت أجهزة الخارجية والدفاع ضده في دعمه لإقامة وطن لليهود ! ولكن في عهد نيكسون عادت الإدارة الى الاعتماد على موظفي وزارة الخارجية . ثم رجعت العادة على الاعتماد على المستشارين الخارجيين في عهد ريغان .
وزارة الدفاع
تعتبر وزارة الدفاع الأمريكية هي الجهة المنوط بها المهام التالية :
1 ـ بناء و إعداد القوات المسلحة ، و الإشراف على القواعد العسكرية التي كان عددها عام 1990 حوالي 350 قاعدة .. وقد جرى تخفيض عليها و تقليص واضح في عام 2005 ، بعد غزو العراق ..
2 ـ جمع وتحليل المعلومات الخاصة بجيوش الدول المعادية ، وحتى الصديقة من خلال جهاز استخباراتي مركزي هو ( وكالة استخبارات الدفاع ) .. مهمته التعرف على احتمالية وقوع اضطرابات وتغييرات سياسية فيما يخص نظم الحكم بالعالم ، واقتراح الحلول لتوظيفها في خدمة أهداف أمريكا ..
وقد قامت تلك الوكالة في عام 1983 بتكليف جهات سرية بوضع مجموعة من الدراسات حول المنطقة العربية هي :
أ ـ التعرف على امكانيات مجلس التعاون الخليجي وتحديد احتمالات تطوره الى كتلة سياسية واقتصادية و عسكرية فاعلة ..
ب ـ التعرف على احتمالات قيام وحدة سياسية بين العراق و سوريا .. و أثر ذلك على المصالح الأمريكية في المنطقة ..
ج ـ التعرف على إمكانيات الضفة الغربية ، و خريطة التوجهات السياسية ، و إمكانية دعم تلك التوجهات لإقامة كيان وديع مستقبلا ..
د ـ دراسة القوى العاملة في البلاد العربية .. وتحديد حجمها و تشبث العاملين بمهنهم وتطويرها و أثر ذلك سياسيا و اقتصاديا في المستقبل ..
ويلاحظ هذا التنوع بأبحاث و دراسات وزارة الدفاع .. وعدم التركيز على الجانب العسكري فقط ..
3ـ وهناك جانب آخر لعمل وزارة الدفاع .. وهو أن هناك 40 معاهدة عسكرية ترتبط بها مع دول أجنبية .. وهناك برامج مساعدات عسكرية و تدريب كوادر أجنبية حيث كان في عام 1986 أكثر من مئة دولة تدرب عناصرها القيادية في أمريكا .. حيث بلغ في ذاك العام حوالي 8000 عنصر أجنبي قيادي .. حيث يزود هؤلاء المتدربين ، بمعرفة نمط الحياة الأمريكية و ثقافتها و كيفية تطبيقها في بلاد المتدربين ! وقد رفض الصهاينة شمولهم بهذه البرامج !
في عام 1987 بلغت ميزانية وزارة الدفاع ، 300 مليار دولار ، أي حوالي ثلث الميزانية الأمريكية .. ويلاحظ أن دور الوزارة ، أحيانا يصل الى درجة التدخل العسكري كما حصل في بنما و غرينادا و ليبيا و أفغانستان و العراق ..