اتصل بادارة الموقع البحث   التسجيل الرئيسية

 


العودة   منتديات عاصمة الربيع > الأقسام الطبية > الطبي العام

الطبي العام الاخبارالصحية وآخر المستجدات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 02-05-10, 07:17 AM   رقم المشاركة : 1
شموخ داعيه
عضو ذهبي
الملف الشخصي






 
الحالة
شموخ داعيه غير متواجد حالياً

 


 

الطب النبوي



فصل [ مرض الأبدان ]
وأما مرض الأبدان فقال تعالى : ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج [ النور 61 ] وذكر مرض البدن في الحج والصوم والوضوء لسر بديع يبين لك عظمة القرآن والاستغناء به لمن فهمه وعقله عن سواه وذلك أن قواعد طب الأبدان ثلاثة حفظ الصحة والحمية عن المؤذي واستفراغ المواد الفاسدة فذكر سبحانه هذه الأصول الثلاثة في هذه المواضع الثلاثة .
فقال في آية الصوم فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر [ البقرة 184 ] فأباح الفطر للمريض لعذر المرض وللمسافر طلبا لحفظ صحته وقوته لئلا يذهبها الصوم في السفر لاجتماع شدة الحركة وما يوجبه من التحليل وعدم الغذاء الذي يخلف ما تحلل فتخور القوة وتضعف فأباح للمسافر الفطر حفظا لصحته وقوته عما يضعفها .
وقال في آية الحج فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك [ البقرة 196 ] فأباح للمريض ومن به أذى من رأسه من قمل أو حكة أو غيرهما أن يحلق رأسه في الإحرام استفراغا لمادة الأبخرة الرديئة التي أوجبت له الأذى في رأسه باحتقانها تحت الشعر فإذا حلق رأسه تفتحت المسام فخرجت تلك الأبخرة منها فهذا الاستفراغ يقاس عليه كل استفراغ يؤذي انحباسه . والأشياء التي يؤذي انحباسها ومدافعتها عشرة الدم إذا هاج والمني إذا تبيغ والبول والغائط والريح والقيء والعطاس والنوم والجوع والعطش . وكل واحد من هذه العشرة يوجب حبسه داء من الأدواء بحسبه . وقد نبه سبحانه باستفراغ أدناها وهو البخار المحتقن في الرأس على استفراغ ما هو أصعب منه كما هي طريقة القرآن التنبيه بالأدنى على الأعلى .
[ الحمية ]
وأما الحمية : فقال تعالى في آية الوضوء وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا [ النساء 43 ] فأباح للمريض العدول عن الماء إلى التراب حمية له أن يصيب جسده ما يؤذيه وهذا تنبيه على الحمية عن كل مؤذ له من داخل أو خارج فقد أرشد - سبحانه - عباده إلى أصول الطب ومجامع قواعده ونحن نذكر هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ونبين أن هديه فيه أكمل هدي .
[ طب القلوب ]
فأما طب القلوب فمسلم إلى الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ولا سبيل إلى حصوله إلا من جهتهم وعلى أيديهم فإن صلاح القلوب أن تكون عارفة بربها وفاطرها وبأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه وأن تكون مؤثرة لمرضاته ومحابه متجنبة لمناهيه ومساخطه ولا صحة لها ولا حياة البتة إلا بذلك ولا سبيل إلى تلقيه إلا من جهة الرسل وما يظن من حصول صحة القلب بدون اتباعهم فغلط ممن يظن ذلك وإنما ذلك حياة نفسه البهيمية الشهوانية وصحتها وقوتها وحياة قلبه وصحته وقوته عن ذلك بمعزل ومن لم يميز بين هذا وهذا فليبك على حياة قلبه فإنه من الأموات وعلى نوره فإنه منغمس في بحار الظلمات .
[ طب الأبدان ]
وأما طب الأبدان فإنه نوعان
نوع قد فطر الله عليه الحيوان ناطقه وبهيمه فهذا لا يحتاج فيه إلى معالجة طبيب كطب الجوع والعطش والبرد والتعب بأضدادها وما يزيلها .
والثاني : ما يحتاج إلى فكر وتأمل كدفع الأمراض المتشابهة الحادثة في المزاج بحيث يخرج بها عن الاعتدال إما إلى حرارة أو برودة أو يبوسة أو رطوبة أو ما يتركب من اثنين منها وهي نوعان إما مادية وإما كيفية أعني إما أن يكون بانصباب مادة أو بحدوث كيفية والفرق بينهما أن أمراض الكيفية تكون بعد زوال المواد التي أوجبتها فتزول موادها ويبقى أثرها كيفية في المزاج .
وأمراض المادة أسبابها معها تمدها وإذا كان سبب المرض معه فالنظر في السبب ينبغي أن يقع أولا ثم في المرض ثانيا ثم في الدواء ثالثا . أو الأمراض الآلية وهي التي تخرج العضو عن هيئته إما في شكل أو تجويف أو مجرى أو خشونة أو ملاسة أو عدد أو عظم أو وضع فإن هذه الأعضاء إذا تألفت وكان منها البدن سمي تألفها اتصالا والخروج عن الاعتدال فيه يسمى تفرق الاتصال أو الأمراض العامة التي تعم المتشابهة والآلية .
والأمراض المتشابهة هي التي يخرج بها المزاج عن الاعتدال وهذا الخروج يسمى مرضا بعد أن يضر بالفعل إضرارا محسوسا . وهي على ثمانية أضرب أربعة بسيطة وأربعة مركبة
فالبسيطة البارد والحار والرطب واليابس .
والمركبة الحار الرطب والحار اليابس والبارد الرطب والبارد اليابس .
وهي إما أن تكون بانصباب مادة أو بغير انصباب مادة وإن لم يضر المرض بالفعل يسمى خروجا عن الاعتدال صحة .
[ أحوال البدن ]
وللبدن ثلاثة أحوال حال طبيعية وحال خارجة عن الطبيعية وحال متوسطة بين الأمرين . فالأولى : بها يكون البدن صحيحا والثانية بها يكون مريضا . والحال الثالثة هي متوسطة بين الحالتين فإن الضد لا ينتقل إلى ضده إلا بمتوسط وسبب خروج البدن عن طبيعته إما من داخله لأنه مركب من الحار والبارد والرطب واليابس وإما من خارج فلأن ما يلقاه قد يكون موافقا وقد يكون غير موافق والضرر الذي يلحق الإنسان قد يكون من سوء المزاج بخروجه عن الاعتدال وقد يكون من فساد في العضو وقد يكون من ضعف في القوى أو الأرواح الحاملة لها ويرجع ذلك إلى زيادة ما الاعتدال في عدم زيادته أو نقصان ما الاعتدال في عدم نقصانه أو تفرق ما الاعتدال في اتصاله أو اتصال ما الاعتدال في تفرقه أو امتداد ما الاعتدال في انقباضه أو خروج ذي وضع وشكل عن وضعه وشكله بحيث يخرجه عن اعتداله .
[ وظيفة الطبيب ]
فالطبيب هو الذي يفرق ما يضر بالإنسان جمعه أو يجمع فيه ما يضره تفرقه أو ينقص منه ما يضره زيادته أو يزيد فيه ما يضره نقصه فيجلب الصحة المفقودة أو يحفظها بالشكل والشبه ويدفع العلة الموجودة بالضد والنقيض ويخرجها أو يدفعها بما يمنع من حصولها بالحمية وسترى هذا كله في هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم شافيا كافيا بحول الله وقوته وفضله ومعونته .
[ فضل طبه صلى الله عليه وسلم على طب الأطباء ]
ونحن نقول إن ها هنا أمرا آخر نسبة طب الأطباء إليه كنسبة طب الطرقية والعجائز إلى طبهم وقد اعترف به حذاقهم وأئمتهم فإن ما عندهم من العلم بالطب منهم من يقول هو قياس . ومنهم من يقول هو تجربة . ومنهم من يقول هو إلهامات ومنامات وحدس صائب . ومنهم من يقول أخذ كثير منه من الحيوانات البهيمية كما نشاهد السنانير إذا أكلت ذوات السموم تعمد إلى السراج فتلغ في الزيت تتداوى به وكما رئيت الحيات إذا خرجت من بطون الأرض وقد عشيت أبصارها تأتي إلى ورق الرازيانج فتمر عيونها عليها . وكما عهد من الطير الذي يحتقن بماء البحر عند انحباس طبعه وأمثال ذلك مما ذكر في مبادئ الطب .
وأين يقع هذا وأمثاله من الوحي الذي يوحيه الله إلى رسوله بما ينفعه ويضره فنسبة ما عندهم من الطب إلى هذا الوحي كنسبة ما عندهم من العلوم إلى ما جاءت به الأنبياء بل ها هنا من الأدوية التي تشفي من الأمراض ما لم يهتد إليها عقول أكابر الأطباء ولم تصل إليها علومهم وتجاربهم وأقيستهم من الأدوية القلبية والروحانية وقوة القلب واعتماده على الله والتوكل عليه والالتجاء إليه والانطراح والانكسار بين يديه والتذلل له والصدقة والدعاء والتوبة والاستغفار والإحسان إلى الخلق وإغاثة الملهوف والتفريج عن المكروب فإن هذه الأدوية قد جربتها الأمم على اختلاف أديانها ومللها فوجدوا لها من التأثير في الشفاء ما لا يصل إليه علم أعلم الأطباء ولا تجربته ولا قياسه .
وقد جربنا نحن وغيرنا من هذا أمورا كثيرة ورأيناها تفعل ما لا تفعل الأدوية الحسية بل تصير الأدوية الحسية عندها بمنزلة أدوية الطرقية عند الأطباء وهذا جار على قانون الحكمة الإلهية ليس خارجا عنها ولكن الأسباب متنوعة فإن القلب متى اتصل برب العالمين وخالق الداء والدواء ومدبر الطبيعة ومصرفها على ما يشاء كانت له أدوية أخرى غير الأدوية التي يعانيها القلب البعيد منه المعرض عنه وقد علم أن الأرواح متى قويت وقويت النفس والطبيعة تعاونا على دفع الداء وقهره فكيف ينكر لمن قويت طبيعته ونفسه وفرحت بقربها من بارئها وأنسها به وحبها له وتنعمها بذكره وانصراف قواها كلها إليه وجمعها عليه واستعانتها به وتوكلها عليه أن يكون ذلك لها من أكبر الأدوية وأن توجب لها هذه القوة دفع الألم بالكلية ولا ينكر هذا إلا أجهل الناس وأغلظهم حجابا وأكثفهم نفسا وأبعدهم عن الله وعن حقيقة الإنسانية وسنذكر إن شاء الله السبب الذي به أزالت قراءة الفاتحة داء اللدغة عن اللديغ التي رقي بها فقام حتى كأن ما به قلبة .
فهذان نوعان من الطب النبوي نحن بحول الله نتكلم عليهما بحسب الجهد والطاقة ومبلغ علومنا القاصرة ومعارفنا المتلاشية جدا وبضاعتنا المزجاة ولكنا نستوهب من بيده الخير كله ونستمد من فضله فإنه العزيز الوهاب .
فصل [ الحث على التداوي وربط الأسباب بالمسببات ]
روى مسلم في " صحيحه " : من حديث أبي الزبير عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله عز وجل
وفي " الصحيحين " : عن عطاء عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء وفي " مسند الإمام أحمد " : من حديث زياد بن علاقة عن أسامة بن شريك قال كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت الأعراب فقالوا : يا رسول الله أنتداوى ؟ فقال " نعم يا عباد الله تداووا فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء غير داء واحد " قالوا : ما هو ؟ قال " الهرم وفي لفظ إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء علمه من علمه وجهله من جهله
وفي " المسند " : من حديث ابن مسعود يرفعه إن الله عز وجل لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء علمه من علمه وجهله من جهله وفي " المسند " و " السنن عن أبي خزامة قال قلت يا رسول الله أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئا ؟ فقال " هي من قدر الله
[ معنى لكل داء دواء ]
فقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات وإبطال قول من أنكرها ويجوز أن يكون قوله لكل داء دواء على عمومه حتى يتناول الأدواء القاتلة والأدواء التي لا يمكن لطبيب أن يبرئها ويكون الله عز وجل قد جعل لها أدوية تبرئها ولكن طوى علمها عن البشر ولم يجعل لهم إليه سبيلا لأنه لا علم للخلق إلا ما علمهم الله ولهذا علق النبي صلى الله عليه وسلم الشفاء على مصادفة الدواء للداء فإنه لا شيء من المخلوقات إلا له ضد وكل داء له ضد من الدواء يعالج بضده فعلق النبي صلى الله عليه وسلم البرء بموافقة الداء للدواء وهذا قدر زائد على مجرد وجوده فإن الدواء متى جاوز درجة الداء في الكيفية أو زاد في الكمية على ما ينبغي نقله إلى داء آخر ومتى قصر عنها لم يف بمقاومته وكان العلاج قاصرا ومتى لم يقع المداوي على الدواء أو لم يقع الدواء على الداء لم يحصل الشفاء ومتى لم يكن الزمان صالحا لذلك الدواء لم ينفع ومتى كان البدن غير قابل له أو القوة عاجزة عن حمله أو ثم مانع يمنع من تأثيره لم يحصل البرء لعدم المصادفة ومتى تمت المصادفة حصل البرء بإذن الله ولا بد وهذا أحسن المحملين في الحديث .
والثاني : أن يكون من العام المراد به الخاص لا سيما والداخل في اللفظ أضعاف أضعاف الخارج منه وهذا يستعمل في كل لسان ويكون المراد أن الله لم يضع داء يقبل الدواء إلا وضع له دواء فلا يدخل في هذا الأدواء التي لا تقبل الدواء وهذا كقوله تعالى في الريح التي سلطها على قوم عاد : تدمر كل شيء بأمر ربها [ الأحقاف 25 ] أي كل شيء يقبل التدمير ومن شأن الريح أن تدمره ونظائره كثيرة . ومن تأمل خلق الأضداد في هذا العالم ومقاومة بعضها لبعض ودفع بعضها ببعض وتسليط بعضها على بعض تبين له كمال قدرة الرب تعالى وحكمته وإتقانه ما صنعه وتفرده بالربوبية والوحدانية والقهر وأن كل ما سواه فله ما يضاده ويمانعه كما أنه الغني بذاته وكل ما سواه محتاج بذاته
[الأمر بالتداوي وبأنه لا ينافي التوكل ]
وفي الأحاديث الصحيحة الأمر بالتداوي وأنه لا ينافي التوكل كما لا ينافيه دفع داء الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدرا وشرعا وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل كما يقدح في الأمر والحكمة ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل فإن تركها عجزا ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه ودفع ما يضره في دينه ودنياه ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب وإلا كان معطلا للحكمة والشرع فلا يجعل العبد عجزه توكلا ولا توكله عجزا .
[التداوي والشفاء مقدر والرد على الجبرية ]
وفيها رد على من أنكر التداوي وقال إن كان الشفاء قد قدر فالتداوي لا يفيد وإن لم يكن قد قدر فكذلك . وأيضا فإن المرض حصل بقدر الله وقدر الله لا يدفع ولا يرد وهذا السؤال هو الذي أورده الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأما أفاضل الصحابة فأعلم بالله وحكمته وصفاته من أن يوردوا مثل هذا وقد أجابهم النبي صلى الله عليه وسلم بما شفى وكفى فقال هذه الأدوية والرقى والتقى هي من قدر الله فما خرج شيء عن قدره بل يرد قدره بقدره وهذا الرد من قدره فلا سبيل إلى الخروج عن قدره بوجه ما وهذا كرد قدر الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها وكرد قدر العدو بالجهاد وكل من قدر الله الدافع والمدفوع والدفع .
ويقال لمورد هذا السؤال هذا يوجب عليك أن لا تباشر سببا من الأسباب التي تجلب بها منفعة أو تدفع بها مضرة لأن المنفعة والمضرة إن قدرتا لم يكن بد من وقوعهما وإن لم تقدرا لم يكن سبيل إلى وقوعهما وفي ذلك خراب الدين والدنيا وفساد العالم وهذا لا يقوله إلا دافع للحق معاند له فيذكر القدر ليدفع حجة المحق عليه كالمشركين الذين قالوا : لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا [ الأنعام 148 ] و لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا [ النحل 35 ] فهذا قالوه دفعا لحجة الله عليهم بالرسل .
وجواب هذا السائل أن يقال بقي قسم ثالث لم تذكره وهو أن الله قدر كذا وكذا بهذا السبب فإن أتيت بالسبب حصل المسبب وإلا فلا فإن قال إن كان قدر لي السبب فعلته وإن لم يقدره لي لم أتمكن من فعله . قيل فهل تقبل هذا الاحتجاج من عبدك وولدك وأجيرك إذا احتج به عليك فيما أمرته به ونهيته عنه فخالفك ؟ فإن قبلته فلا تلم من عصاك وأخذ مالك وقذف عرضك وضيع حقوقك وإن لم تقبله فكيف يكون مقبولا منك في دفع حقوق الله عليك . وقد روي في أثر إسرائيلي أن إبراهيم الخليل قال يا رب ممن الداء ؟ قال " مني " . قال فممن الدواء " ؟ قال " مني " . قال فما بال الطبيب ؟ . قال " رجل أرسل الدواء على يديه " .
وفي قوله صلى الله عليه وسلم لكل داء دواء تقوية لنفس المريض والطبيب وحث على طلب ذلك الدواء والتفتيش عليه فإن المريض إذا استشعرت نفسه أن لدائه دواء يزيله تعلق قلبه بروح الرجاء وبردت عنده حرارة اليأس وانفتح له باب الرجاء ومتى قويت نفسه انبعثت حرارته الغريزية وكان ذلك سببا لقوة الأرواح الحيوانية والنفسانية والطبيعية ومتى قويت هذه الأرواح قويت القوى التي هي حاملة لها فقهرت المرض ودفعته . وكذلك الطبيب إذا علم أن لهذا الداء دواء أمكنه طلبه والتفتيش عليه . وأمراض الأبدان على وزان أمراض القلوب وما جعل الله للقلب مرضا إلا جعل له شفاء بضده فإن علمه صاحب الداء واستعمله وصادف داء قلبه أبرأه بإذن الله تعالى .
الغذاء ثلاثة
أحدها : مرتبة الحاجة .
والثانية مرتبة الكفاية .
والثالثة مرتبة الفضلة .
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يكفيه لقيمات يقمن صلبه فلا تسقط قوته ولا تضعف معها فإن تجاوزها فليأكل في ثلث بطنه ويدع الثلث الآخر للماء والثالث للنفس وهذا من أنفع ما للبدن والقلب فإن البطن إذا امتلأ من الطعام ضاق عن الشراب فإذا ورد عليه الشراب ضاق عن النفس وعرض له الكرب والتعب بحمله بمنزلة حامل الحمل الثقيل هذا إلى ما يلزم ذلك من فساد القلب وكسل الجوارح عن الطاعات وتحركها في الشهوات التي يستلزمها الشبع . فامتلاء البطن من الطعام مضر للقلب والبدن .
هذا إذا كان دائما أو أكثريا . وأما إذا كان في الأحيان فلا بأس به فقد شرب أبو هريرة بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم من اللبن حتى قال والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكا وأكل الصحابة بحضرته مرارا حتى شبعوا . والشبع المفرط يضعف القوى والبدن وإن أخصبه وإنما يقوى البدن بحسب ما يقبل من الغذاء لا بحسب كثرته . ولما كان في الإنسان جزء أرضي وجزء هوائي وجزء مائي قسم النبي صلى الله عليه وسلم طعامه وشرابه ونفسه على الأجزاء الثلاثة .
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الاحتماء من التخم والزيادة في الأكل على قدر الحاجة والقانون الذي ينبغي مراعاته في الأكل والشرب
في " المسند " وغيره عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان لا بد فاعلا فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه .
[سبب الأمراض المادية ]
الأمراض نوعان أمراض مادية تكون عن زيادة مادة أفرطت في البدن حتى أضرت بأفعاله الطبيعية وهي الأمراض الأكثرية وسببها إدخال الطعام على البدن قبل هضم الأول والزيادة في القدر الذي يحتاج إليه البدن وتناول الأغذية القليلة النفع البطيئة الهضم والإكثار من الأغذية المختلفة التراكيب المتنوعة فإذا ملأ الآدمي بطنه من هذه الأغذية واعتاد ذلك أورثته أمراضا متنوعة منها بطيء الزوال وسريعه فإذا توسط في الغذاء وتناول منه قدر الحاجة وكان معتدلا في كميته وكيفيته كان انتفاع البدن به أكثر من انتفاعه بالغذاء الكثير .
[ مراتب الغذاء ]
ومراتب الغذاء ثلاثة
أحدها : مرتبة الحاجة .
والثانية مرتبة الكفاية .
والثالثة مرتبة الفضلة .
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يكفيه لقيمات يقمن صلبه فلا تسقط قوته ولا تضعف معها فإن تجاوزها فليأكل في ثلث بطنه ويدع الثلث الآخر للماء والثالث للنفس وهذا من أنفع ما للبدن والقلب فإن البطن إذا امتلأ من الطعام ضاق عن الشراب فإذا ورد عليه الشراب ضاق عن النفس وعرض له الكرب والتعب بحمله بمنزلة حامل الحمل الثقيل هذا إلى ما يلزم ذلك من فساد القلب وكسل الجوارح عن الطاعات وتحركها في الشهوات التي يستلزمها الشبع . فامتلاء البطن من الطعام مضر للقلب والبدن .
هذا إذا كان دائما أو أكثريا . وأما إذا كان في الأحيان فلا بأس به فقد شرب أبو هريرة بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم من اللبن حتى قال والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكا وأكل الصحابة بحضرته مرارا حتى شبعوا . والشبع المفرط يضعف القوى والبدن وإن أخصبه وإنما يقوى البدن بحسب ما يقبل من الغذاء لا بحسب كثرته . ولما كان في الإنسان جزء أرضي وجزء هوائي وجزء مائي قسم النبي صلى الله عليه وسلم طعامه وشرابه ونفسه على الأجزاء الثلاثة .
فصل [أنواع علاجه صلى الله عليه وسلم ]
وكان علاجه صلى الله عليه وسلم للمرض ثلاثة أنواع
أحدها : بالأدوية الطبيعية .
والثاني : بالأدوية الإلهية .
والثالث بالمركب من الأمرين .
ونحن نذكر الأنواع الثلاثة من هديه صلى الله عليه وسلم فنبدأ بذكر الأدوية الطبيعية التي وصفها واستعملها ثم نذكر الأدوية الإلهية ثم المركبة .
وهذا إنما نشير إليه إشارة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما بعث هاديا وداعيا إلى الله وإلى جنته ومعرفا بالله ومبينا للأمة مواقع رضاه وآمرا لهم بها ومواقع سخطه وناهيا لهم عنها ومخبرهم أخبار الأنبياء والرسل وأحوالهم مع أممهم وأخبار تخليق العالم وأمر المبدأ والمعاد وكيفية شقاوة النفوس وسعادتها وأسباب ذلك .
وأما طب الأبدان فجاء من تكميل شريعته ومقصودا لغيره بحيث إنما يستعمل عند الحاجة إليه فإذا قدر على الاستغناء عنه كان صرف الهمم والقوى إلى علاج القلوب والأرواح وحفظ صحتها ودفع أسقامها وحميتها مما يفسدها هو المقصود بالقصد الأول وإصلاح البدن بدون إصلاح القلب لا ينفع وفساد البدن مع إصلاح القلب مضرته يسيرة جدا وهي مضرة زائلة تعقبها المنفعة الدائمة التامة وبالله التوفيق
ذكر القسم الأول وهو العلاج بالأدوية الطبيعية
فصل في هديه في علاج الحمى
ثبت في " الصحيحين " : عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنما الحمى أو شدة الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء
[ خطابه صلى الله عليه وسلم نوعان عام لأهل الأرض وخاص ببعضهم ]
وقد أشكل هذا الحديث على كثير من جهلة الأطباء ورأوه منافيا لدواء الحمى وعلاجها ونحن نبين بحول الله وقوته وجهه وفقهه فنقول خطاب النبي صلى الله عليه وسلم نوعان عام لأهل الأرض وخاص ببعضهم فالأول كعامة خطابه والثاني : كقوله لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا فهذا ليس بخطاب لأهل المشرق والمغرب ولا العراق ولكن لأهل المدينة وما على سمتها كالشام وغيرها . وكذلك قوله ما بين المشرق والمغرب قبلة
[ حديث الحمى خاص بأهل الحجاز ]
وإذا عرف هذا فخطابه في هذا الحديث خاص بأهل الحجاز ما والاهم إذ كان أكثر الحميات التي تعرض لهم من نوع الحمى اليومية العرضية الحادثة عن شدة حرارة الشمس وهذه ينفعها الماء البارد شربا واغتسالا فإن الحمى حرارة غريبة تشتعل في القلب وتنبث منه بتوسط الروح والدم في الشرايين والعروق إلى جميع البدن فتشتعل فيه اشتعالا يضر بالأفعال الطبيعية أسباب الحمى
وهي تنقسم إلى قسمين
عرضية وهي الحادثة إما عن الورم أو الحركة أو إصابة حرارة الشمس أو القيظ الشديد ونحو ذلك .
ومرضية وهي ثلاثة أنواع وهي لا تكون إلا في مادة أولى ثم منها يسخن جميع البدن . فإن كان مبدأ تعلقها بالروح سميت حمى يوم لأنها في الغالب تزول في يوم ونهايتها ثلاثة أيام وإن كان مبدأ تعلقها بالأخلاط سميت عفنية وهي أربعة أصناف صفراوية وسوداوية وبلغمية ودموية . وإن كان مبدأ تعلقها بالأعضاء الصلبة الأصلية سميت حمى دق وتحت هذه الأنواع أصناف كثيرة .
وقد ينتفع البدن بالحمى انتفاعا عظيما لا يبلغه الدواء وكثيرا ما يكون حمى يوم وحمى العفن سببا لإنضاج مواد غليظة لم تكن تنضج بدونها وسببا لتفتح سدد لم يكن تصل إليها الأدوية المفتحة .
[ تبرئ الحمى كثيرا من الأمراض ]
وأما الرمد الحديث والمتقادم فإنها تبرئ أكثر أنواعه برءا عجيبا سريعا وتنفع من الفالج واللقوة والتشنج الامتلائي وكثيرا من الأمراض الحادثة عن الفضول الغليظة .
[ تأكيد هذا القول للمصنف من قبل بعض الأطباء ]
وقال لي بعض فضلاء الأطباء إن كثيرا من الأمراض نستبشر فيها بالحمى كما يستبشر المريض بالعافية فتكون الحمى فيه أنفع من شرب الدواء بكثير فإنها تنضج من الأخلاط والمواد الفاسدة ما يضر بالبدن فإذا أنضجتها صادفها الدواء متهيئة للخروج بنضاجها فأخرجها فكانت سببا للشفاء . وإذا عرف هذا فيجوز أن يكون مراد الحديث من أقسام الحميات العرضية فإنها تسكن على المكان بالانغماس في الماء البارد وسقي الماء البارد المثلوج ولا يحتاج صاحبها مع ذلك إلى علاج آخر فإنها مجرد كيفية حارة متعلقة بالروح فيكفي في زوالها مجرد وصول كيفية باردة تسكنها وتخمد لهبها من غير حاجة إلى استفراغ مادة أو انتظار نضج .
[ اعتراف جالينوس بأن الماء البارد ينفع في الحمى ]
ويجوز أن يراد به جميع أنواع الحميات وقد اعترف فاضل الأطباء جالينوس : بأن الماء البارد ينفع فيها قال في المقالة العاشرة من كتاب " حيلة البرء " : ولو أن رجلا شابا حسن اللحم خصب البدن في وقت القيظ وفي وقت منتهى الحمى وليس في أحشائه ورم استحم بماء بارد أو سبح فيه لانتفع بذلك . قال ونحن نأمر بذلك لا توقف
[ قول الرازي ]
وقال الرازي في كتابه الكبير إذا كانت القوة قوية والحمى حادة جدا والنضج بين ولا ورم في الجوف ولا فتق ينفع الماء البارد شربا وإن كان العليل خصب البدن والزمان حار وكان معتادا لاستعمال الماء البارد من خارج فليؤذن فيه .
[ معنى الحمى من فيح جهنم ]
وقوله الحمى من فيح جهنم هو شدة لهبها وانتشارها ونظيره قوله شدة الحر من فيح جهنم وفيه وجهان
أحدهما : أن ذلك أنموذج ورقيقة اشتقت من جهنم ليستدل بها العباد عليها ويعتبروا بها ثم إن الله سبحانه قدر ظهورها بأسباب تقتضيها كما أن الروح والفرح والسرور واللذة من نعيم الجنة أظهرها الله في هذه الدار عبرة ودلالة وقدر ظهورها بأسباب توجبها .
والثاني : أن يكون المراد التشبيه فشبه شدة الحمى ولهبها بفيح جهنم وشبه شدة الحر به أيضا تنبيها للنفوس على شدة عذاب النار وأن هذه الحرارة العظيمة مشبهة بفيحها وهو ما يصيب من قرب منها من حرها .
[ معنى فأبردوها ]
وقوله " فأبردوها " روي بوجهين بقطع الهمزة وفتحها رباعي من أبرد الشيء إذا صيره باردا مثل أسخنه إذا صيره سخنا .
والثاني : بهمزة الوصل مضمومة من برد الشيء يبرده وهو أفصح لغة واستعمالا والرباعي لغة رديئة عندهم قال

إذا وجدت لهيب الحب في كبدي أقبلت نحو سقاء القوم أبترد
هبني بردت ببرد الماء ظاهره فمن لنار على الأحشاء تتقد
[ معنى بالماء ]
وقوله " بالماء " فيه قولان . أحدهما : أنه كل ماء وهو الصحيح .
والثاني : أنه ماء زمزم واحتج أصحاب هذا القول بما رواه البخاري في " صحيحه " عن أبي جمرة نصر بن عمران الضبعي قال كنت أجالس ابن عباس بمكة فأخذتني الحمى فقال أبردها عنك بماء زمزم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء أو قال بماء زمزم وراوي هذا قد شك فيه ولو جزم به لكان أمرا لأهل مكة بماء زمزم إذ هو متيسر عندهم ولغيرهم بما عندهم من الماء .
ثم اختلف من قال إنه على عمومه هل المراد به الصدقة بالماء أو استعماله ؟ على قولين . والصحيح أنه استعمال وأظن أن الذي حمل من قال المراد الصدقة به أنه أشكل عليه استعمال الماء البارد في الحمى ولم يفهم وجهه مع أن لقوله وجها حسنا وهو أن الجزاء من جنس العمل فكما أخمد لهيب العطش عن الظمآن بالماء البارد أخمد الله لهيب الحمى عنه جزاء وفاقا ولكن هذا يؤخذ من فقه الحديث وإشارته وأما المراد به فاستعماله .
وقد ذكر أبو نعيم وغيره من حديث أنس يرفعه إذا حم أحدكم فليرش عليه الماء البارد ثلاث ليال من السحر وفي " سنن ابن ماجه " عن أبي هريرة يرفعه الحمى كير من كير جهنم فنحوها عنكم بالماء البارد وفي " المسند " وغيره من حديث الحسن عن سمرة يرفعه الحمى قطعة من النار فأبردوها عنكم بالماء البارد
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حم دعا بقربة من ماء فأفرغها على رأسه فاغتسل وفي " السنن " : من حديث أبي هريرة قال ذكرت الحمى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبها رجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسبها فإنها تنفي الذنوب كما تنفي النار خبث الحديد
لما كانت الحمى يتبعها حمية عن الأغذية الرديئة وتناول الأغذية والأدوية النافعة وفي ذلك إعانة على تنقية البدن ونفي أخباثه وفضوله وتصفيته من مواده الرديئة وتفعل فيه كما تفعل النار في الحديد في نفي خبثه وتصفية جوهره كانت أشبه الأشياء بنار الكير التي تصفي جوهر الحديد وهذا القدر هو المعلوم عند أطباء الأبدان .
[ الحمى تنفع البدن والقلب ]
وأما تصفيتها القلب من وسخه ودرنه وإخراجها خبائثه فأمر يعلمه أطباء القلوب ويجدونه كما أخبرهم به نبيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن مرض القلب إذا صار مأيوسا من برئه لم ينفع فيه هذا العلاج .
فالحمى تنفع البدن والقلب وما كان بهذه المثابة فسبه ظلم وعدوان وذكرت مرة وأنا محموم قول بعض الشعراء يسبها :

زارت مكفرة الذنوب وودعت تبا لها من زائر ومودع
قالت وقد عزمت على ترحالها ماذا تريد فقلت أن لا ترجعي
فقلت : تبا له إذ سب ما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبه ولو قال
زارت مكفرة الذنوب لصبها أهلا بها من زائر ومودع
قالت وقد عزمت على ترحالها ماذا تريد فقلت : أن لا تقلعي
لكان أولى به ولأقلعت عنه فأقلعت عني سريعا . وقد روي في أثر لا أعرف حاله حمى يوم كفارة سنة وفيه قولان أحدهما : أن الحمى تدخل في كل الأعضاء والمفاصل وعدتها ثلاثمائة وستون مفصلا فتكفر عنه - بعدد كل مفصل - ذنوب يوم .
والثاني : أنها تؤثر في البدن تأثيرا لا يزول بالكلية إلى سنة كما قيل في قوله صلى الله عليه وسلم من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين يوما إن أثر الخمر يبقى في جوف العبد وعروقه وأعضائه أربعين يوما والله أعلم
قال أبو هريرة : ما من مرض يصيبني أحب إلي من الحمى لأنها تدخل في كل عضو مني وإن الله سبحانه يعطي كل عضو حظه من الأجر
وقد روى الترمذي في " جامعه " من حديث رافع بن خديج يرفعه إذا أصابت أحدكم الحمى - وإن الحمى قطعة من النار - فليطفئها بالماء البارد ويستقبل نهرا جاريا فليستقبل جرية الماء بعد الفجر وقبل طلوع الشمس وليقل بسم الله اللهم اشف عبدك وصدق رسولك وينغمس فيه ثلاث غمسات ثلاثة أيام فإن برئ وإلا ففي خمس فإن لم يبرأ في خمس فسبع فإن لم يبرأ في سبع فتسع فإنها لا تكاد تجاوز تسعا بإذن الله
قلت : وهو ينفع فعله في فصل الصيف في البلاد الحارة على الشرائط التي تقدمت فإن الماء في ذلك الوقت أبرد ما يكون لبعده عن ملاقاة الشمس ووفور القوى في ذلك الوقت لما أفادها النوم والسكون وبرد الهواء فتجتمع فيه قوة القوى وقوة الدواء وهو الماء البارد على حرارة الحمى العرضية أو الغب الخالصة أعني التي لا ورم معها ولا شيء من الأعراض الرديئة والمواد الفاسدة فيطفئها بإذن الله لا سيما في أحد الأيام المذكورة في الحديث وهي الأيام التي يقع فيها بحران الأمراض الحادة كثيرا سيما في البلاد المذكورة لرقة أخلاط سكانها وسرعة انفعالهم عن الدواء النافع .
فصل في هديه في علاج استطلاق البطن
[ علاجه بالعسل ]
في " الصحيحين " : من حديث أبي المتوكل عن أبي سعيد الخدري أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن أخي يشتكي بطنه وفي رواية استطلق بطنه فقال اسقه عسلا " فذهب ثم رجع فقال قد سقيته فلم يغن عنه شيئا وفي لفظ فلم يزده إلا استطلاقا مرتين أو ثلاثا كل ذلك يقول له اسقه عسلا " فقال له في الثالثة أو الرابعة صدق الله وكذب بطن أخيك
وفي " صحيح مسلم " في لفظ له " إن أخي عرب بطنه " أي فسد هضمه واعتلت معدته والاسم العرب بفتح الراء والذرب أيضا .
[ منافع العسل ]
والعسل فيه منافع عظيمة فإنه جلاء للأوساخ التي في العروق والأمعاء وغيرها محلل للرطوبات أكلا وطلاء نافع للمشايخ وأصحاب البلغم ومن كان مزاجه باردا رطبا وهو مغذ ملين للطبيعة حافظ لقوى المعاجين ولما استودع فيه مذهب لكيفيات الأدوية الكريهة منق للكبد والصدر مدر للبول موافق للسعال الكائن عن البلغم وإذا شرب حارا بدهن الورد نفع من نهش الهوام وشرب الأفيون وإن شرب وحده ممزوجا بماء نفع من عضة الكلب الكلب وأكل الفطر القتال وإذا جعل فيه اللحم الطري حفظ طراوته ثلاثة أشهر وكذلك إن جعل فيه القثاء والخيار والقرع والباذنجان ويحفظ كثيرا من الفاكهة ستة أشهر ويحفظ جثة الموتى ويسمى الحافظ الأمين . وإذا لطخ به البدن المقمل والشعر قتل قمله وصئبانه وطول الشعر وحسنه ونعمه وإن اكتحل به جلا ظلمة البصر وإن استن به بيض الأسنان وصقلها وحفظ صحتها وصحة اللثة ويفتح أفواه العروق ويدر الطمث ولعقه على الريق يذهب البلغم ويغسل خمل المعدة ويدفع الفضلات عنها ويسخنها تسخينا معتدلا ويفتح سددها ويفعل ذلك بالكبد والكلى والمثانة وهو أقل ضررا لسدد الكبد والطحال من كل حلو . وهو مع هذا كله مأمون الغائلة قليل المضار مضر بالعرض للصفراويين ودفعها بالخل ونحوه فيعود حينئذ نافعا له جدا .
وهو غذاء مع الأغذية ودواء مع الأدوية وشراب مع الأشربة وحلو مع الحلوى وطلاء مع الأطلية ومفرح مع المفرحات فما خلق لنا شيء في معناه أفضل منه ولا مثله ولا قريبا منه ولم يكن معول القدماء إلا عليه وأكثر كتب القدماء لا ذكر فيها للسكر البتة ولا يعرفونه فإنه حديث العهد حدث قريبا وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشربه بالماء على الريق وفي ذلك سر بديع في حفظ الصحة لا يدركه إلا الفطن الفاضل وسنذكر ذلك إن شاء الله عند ذكر هديه في حفظ الصحة .
وفي " سنن ابن ماجه " مرفوعا من حديث أبي هريرة من لعق العسل ثلاث غدوات كل شهر لم يصبه عظيم من البلاء وفي أثر آخر عليكم بالشفاءين العسل والقرآن فجمع بين الطب البشري والإلهي وبين طب الأبدان وطب الأرواح وبين الدواء الأرضي والدواء السمائي .
إذا عرف هذا فهذا الذي وصف له النبي صلى الله عليه وسلم العسل كان استطلاق بطنه عن تخمة أصابته عن امتلاء فأمره بشرب العسل لدفع الفضول المجتمعة في نواحي المعدة والأمعاء فإن العسل فيه جلاء ودفع للفضول وكان قد أصاب المعدة أخلاط لزجة تمنع استقرار الغذاء فيها للزوجتها فإن المعدة لها خمل كخمل القطيفة فإذا علقت بها الأخلاط اللزجة أفسدتها وأفسدت الغذاء فدواؤها بما يجلوها من تلك الأخلاط والعسل جلاء والعسل من أحسن ما عولج به هذا الداء لا سيما إن مزج بالماء الحار .
[]
وفي تكرار سقيه العسل معنى طبي بديع وهو أن الدواء يجب أن يكون له مقدار وكمية بحسب حال الداء إن قصر عنه لم يزله بالكلية وإن جاوزه . أوهى القوى فأحدث ضررا آخر فلما أمره أن يسقيه العسل سقاه مقدارا لا يفي بمقاومة الداء ولا يبلغ الغرض فلما أخبره علم أن الذي سقاه لا يبلغ مقدار الحاجة فلما تكرر ترداده إلى النبي صلى الله عليه وسلم أكد عليه المعاودة ليصل إلى المقدار المقاوم للداء فلما تكررت الشربات بحسب مادة الداء برأ بإذن الله واعتبار مقادير الأدوية وكيفياتها ومقدار قوة المرض مرض من أكبر قواعد الطب .
[ معنى صدق الله وكذب بطن أخيك ]
" وفي قوله صلى الله عليه وسلم صدق الله وكذب بطن أخيك إشارة إلى تحقيق نفع هذا الدواء وأن بقاء الداء ليس لقصور الدواء في نفسه ولكن لكذب البطن وكثرة المادة الفاسدة فيه فأمره بتكرار الدواء لكثرة المادة .
وليس طبه صلى الله عليه وسلم كطب الأطباء فإن طب النبي صلى الله عليه وسلم متيقن قطعي إلهي صادر عن الوحي ومشكاة النبوة وكمال العقل . وطب غيره أكثره حدس وظنون وتجارب ولا ينكر عدم انتفاع كثير من المرضى بطب النبوة فإنه إنما ينتفع به من تلقاه بالقبول واعتقاد الشفاء به وكمال التلقي له بالإيمان والإذعان فهذا القرآن الذي هو شفاء لما في الصدور - إن لم يتلق هذا التلقي - لم يحصل به شفاء الصدور من أدوائها بل لا يزيد المنافقين إلا رجسا إلى رجسهم ومرضا إلى مرضهم وأين يقع طب الأبدان منه فطب النبوة لا يناسب إلا الأبدان الطيبة كما أن شفاء القرآن لا يناسب إلا الأرواح الطيبة والقلوب الحية فإعراض الناس عن طب النبوة كإعراضهم عن الاستشفاء بالقرآن الذي هو الشفاء النافع وليس ذلك لقصور في الدواء ولكن لخبث الطبيعة وفساد المحل وعدم قبوله والله الموفق .
فصل
[ بيان أن العسل فيه شفاء للناس ]
وقد اختلف الناس في قوله تعالى : يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس [ النحل 69 ] هل الضمير في " فيه " راجع إلى الشراب أو راجع إلى القرآن ؟ على قولين الصحيح رجوعه إلى الشراب وهو قول ابن مسعود وابن عباس والحسن وقتادة والأكثرين فإنه هو المذكور والكلام سيق لأجله ولا ذكر للقرآن في الآية وهذا الحديث الصحيح وهو قوله " صدق الله " كالصريح فيه والله تعالى أعلم
[ آثار الطاعون ]
قلت : هذه القروح والأورام والجراحات هي آثار الطاعون وليست نفسه ولكن الأطباء لما لم تدرك منه إلا الأثر الظاهر جعلوه نفس الطاعون . والطاعون يعبر به عن ثلاثة أمور
أحدها : هذا الأثر الظاهر وهو الذي ذكره الأطباء .
والثاني : الموت الحادث عنه وهو المراد بالحديث الصحيح في قوله الطاعون شهادة لكل مسلم
والثالث السبب الفاعل لهذا الداء وقد ورد في الحديث الصحيح أنه بقية رجز أرسل على بني إسرائيل وورد فيه " أنه وخز الجن " وجاء أنه دعوة نبي .
[ بيان ما للجن من تأثير في الطاعون - وكيفية دفعه ]
وهذه العلل والأسباب ليس عند الأطباء ما يدفعها كما ليس عندهم ما يدل عليها والرسل تخبر بالأمور الغائبة وهذه الآثار التي أدركوها من أمر الطاعون ليس معهم ما ينفي أن تكون بتوسط الأرواح فإن تأثير الأرواح في الطبيعة وأمراضها وهلاكها أمر لا ينكره إلا من هو أجهل الناس بالأرواح وتأثيراتها وانفعال الأجسام وطبائعها عنها والله سبحانه قد يجعل لهذه الأرواح تصرفا في أجسام بني آدم عند حدوث الوباء وفساد الهواء كما يجعل لها تصرفا عند بعض المواد الرديئة التي تحدث للنفوس هيئة رديئة ولا سيما عند هيجان الدم والمرة السوداء وعند هيجان المني فإن الأرواح الشيطانية تتمكن من فعلها بصاحب هذه العوارض ما لا تتمكن من غيره ما لم يدفعها دافع أقوى من هذه الأسباب من الذكر والدعاء والابتهال والتضرع والصدقة وقراءة القرآن فإنه يستنزل بذلك من الأرواح الملكية ما يقهر هذه الأرواح الخبيثة ويبطل شرها ويدفع تأثيرها وقد جربنا نحن وغيرنا هذا مرارا لا يحصيها إلا الله ورأينا لاستنزال هذه الأرواح الطيبة واستجلاب قربها تأثيرا عظيما في تقوية الطبيعة ودفع المواد الرديئة وهذا يكون قبل استحكامها وتمكنها ولا يكاد ينخرم فمن وفقه الله بادر عند إحساسه بأسباب الشر إلى هذه الأسباب التي تدفعها عنه وهي له من أنفع الدواء وإذا أراد الله عز وجل إنفاذ قضائه وقدره أغفل قلب العبد عن معرفتها وتصورها وإرادتها فلا يشعر بها ولا يريدها ليقضي الله فيه أمرا كان مفعولا .
وسنزيد هذا المعنى إن شاء الله تعالى إيضاحا وبيانا عند الكلام على التداوي بالرقى والعوذ النبوية والأذكار والدعوات وفعل الخيرات ونبين أن نسبة طب الأطباء إلى هذا الطب النبوي كنسبة طب الطرقية والعجائز إلى طبهم كما اعترف به حذاقهم وأئمتهم ونبين أن الطبيعة الإنسانية أشد شيء انفعالا عن الأرواح وأن قوى العوذ والرقى والدعوات فوق قوى الأدوية حتى إنها تبطل قوى السموم القاتلة .
[ فساد الهواء جزء من أسباب الطاعون وبيان حاله في الفصول ]
والمقصود أن فساد الهواء جزء من أجزاء السبب التام والعلة الفاعلة للطاعون فإن فساد جوهر الهواء الموجب لحدوث الوباء وفساده يكون لاستحالة جوهره إلى الرداءة لغلبة إحدى الكيفيات الرديئة عليه كالعفونة والنتن والسمية في أي وقت كان من أوقات السنة وإن كان أكثر حدوثه في أواخر الصيف وفي الخريف غالبا لكثرة اجتماع الفضلات المرارية الحادة وغيرها في فصل الصيف وعدم تحللها في آخره وفي الخريف لبرد الجو وردغة الأبخرة والفضلات التي كانت تتحلل في زمن الصيف . فتنحصر فتسخن وتعفن فتحدث الأمراض العفنة ولا سيما إذا صادفت البدن مستعدا قابلا رهلا قليل الحركة كثير المواد فهذا لا يكاد يفلت من العطب .
وأصح الفصول فيه فصل الربيع . قال إبقراط : إن في الخريف أشد ما تكون من الأمراض وأقتل وأما الربيع فأصح الأوقات كلها وأقلها موتا وقد جرت عادة الصيادلة ومجهزي الموتى أنهم يستدينون ويتسلفون في الربيع والصيف على فصل الخريف فهو ربيعهم وهم أشوق شيء إليه وأفرح بقدومه وقد روي في حديث إذا طلع النجم ارتفعت العاهة عن كل بلد . وفسر بطلوع الثريا وفسر بطلوع النبات زمن الربيع ومنه والنجم والشجر يسجدان [ الرحمن 7 ] فإن كمال طلوعه وتمامه يكون في فصل الربيع وهو الفصل الذي ترتفع فيه الآفات .
وأما الثريا فالأمراض تكثر وقت طلوعها مع الفجر وسقوطها .
قال التميمي في كتاب " مادة البقاء " : أشد أوقات السنة فسادا وأعظمها بلية على الأجساد وقتان
أحدهما : وقت سقوط الثريا للمغيب عند طلوع الفجر .
والثاني : وقت طلوعها من المشرق قبل طلوع الشمس على العالم بمنزلة من منازل القمر وهو وقت تصرم فصل الربيع وانقضائه غير أن الفساد الكائن عند طلوعها أقل ضررا من الفساد الكائن عند سقوطها . وقال أبو محمد بن قتيبة يقال ما طلعت الثريا ولا نأت إلا بعاهة في الناس والإبل وغروبها أعوه من طلوعها . وفي الحديث قول ثالث - ولعله أولى الأقوال به - أن المراد بالنجم الثريا وبالعاهة الآفة التي تلحق الزروع والثمار في فصل الشتاء وصدر فصل الربيع فحصل الأمن عليها عند طلوع الثريا في الوقت المذكور ولذلك نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة وشرائها قبل أن يبدو صلاحها . والمقصود الكلام على هديه صلى الله عليه وسلم عند وقوع الطاعون
فصل
[النهي عن الدخول إلى أرض الطاعون أو الخروج منها ]
وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم للأمة في نهيه عن الدخول إلى الأرض التي هو بها ونهيه عن الخروج منها بعد وقوعه كمال التحرز منه فإن في الدخول في الأرض التي هو بها تعرضا للبلاء وموافاة له في محل سلطانه وإعانة للإنسان على نفسه وهذا مخالف للشرع والعقل بل تجنب الدخول إلى أرضه من باب الحمية التي أرشد الله سبحانه إليها وهي حمية عن الأمكنة والأهوية المؤذية .
[ معنى النهي عن الخروج من البلد ]
وأما نهيه عن الخروج من بلده ففيه معنيان أحدهما : حمل النفوس على الثقة بالله والتوكل عليه والصبر على أقضيته والرضى بها .
[ يجب على المطعون السكون والدعة وهو مناف للسفر ]
والثاني : ما قاله أئمة الطب : أنه يجب على كل محترز من الوباء أن يخرج عن بدنه الرطوبات الفضلية ويقلل الغذاء ويميل إلى التدبير المجفف من كل وجه إلا الرياضة والحمام فإنهما مما يجب أن يحذرا لأن البدن لا يخلو غالبا من فضل رديء كامن فيه فتثيره الرياضة والحمام ويخلطانه بالكيموس الجيد وذلك يجلب علة عظيمة بل يجب عند وقوع الطاعون السكون والدعة وتسكين هيجان الأخلاط ولا يمكن الخروج من أرض الوباء والسفر منها إلا بحركة شديدة وهي مضرة جدا هذا كلام أفضل الأطباء المتأخرين فظهر المعنى الطبي من الحديث النبوي وما فيه من علاج القلب والبدن وصلاحهما .
فإن قيل ففي قول النبي صلى الله عليه وسلم لا تخرجوا فرارا منه ما يبطل أن يكون أراد هذا المعنى الذي ذكرتموه وأنه لا يمنع الخروج لعارض ولا يحبس مسافرا عن سفره ؟ قيل لم يقل أحد طبيب ولا غيره إن الناس يتركون حركاتهم عند الطواعين ويصيرون بمنزلة الجمادات وإنما ينبغي فيه التقلل من الحركة بحسب الإمكان والفار منه لا موجب لحركته إلا مجرد الفرار منه ودعته وسكونه أنفع لقلبه وبدنه وأقرب إلى توكله على الله تعالى واستسلامه لقضائه . وأما من لا يستغني عن الحركة كالصناع والأجراء والمسافرين والبرد وغيرهم فلا يقال لهم اتركوا حركاتكم جملة وإن أمروا أن يتركوا منها ما لا حاجة لهم إليه كحركة المسافر فارا منه والله تعالى أعلم .
[ حكم المنع من الدخول ]
وفي المنع من الدخول إلى الأرض التي قد وقع بها عدة حكم
أحدها : تجنب الأسباب المؤذية والبعد منها .
الثاني : الأخذ بالعافية التي هي مادة المعاش والمعاد .
الثالث أن لا يستنشقوا الهواء الذي قد عفن وفسد فيمرضون .
الرابع أن لا يجاوروا المرضى الذين قد مرضوا بذلك فيحصل لهم بمجاورتهم من جنس أمراضهم .
وفي " سنن أبي داود " مرفوعا : إن من القرف التلف قال ابن قتيبة : القرف مداناة الوباء ومداناة المرضى .
[حمية النفوس عن العدوى والطيرة ]
الخامس حمية النفوس عن الطيرة والعدوى فإنها تتأثر بهما فإن الطيرة على من تطير بها وبالجملة ففي النهي عن الدخول في أرضه الأمر بالحذر والحمية والنهي عن التعرض لأسباب التلف . وفي النهي عن الفرار منه الأمر بالتوكل والتسليم والتفويض فالأول تأديب وتعليم والثاني : تفويض وتسليم .
[ قصة عمر في امتناعه عن دخول الشام لوقوع الطاعون بها ]
وفي الصحيح أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام فاختلفوا فقال لابن عباس ادع لي المهاجرين الأولين قال فدعوتهم فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام فاختلفوا فقال له بعضهم خرجت لأمر فلا نرى أن ترجع عنه . وقال آخرون معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء فقال عمر ارتفعوا عني ثم قال ادع لي الأنصار فدعوتهم له فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين واختلفوا كاختلافهم فقال ارتفعوا عني ثم قال ادع لي من ها هنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح فدعوتهم له فلم يختلف عليه منهم رجلان قالوا : نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء فأذن عمر في الناس إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه فقال أبو عبيدة بن الجراح : يا أمير المؤمنين أفرارا من قدر الله تعالى ؟ قال لو غيرك قالها يا أبا عبيدة نعم نفر من قدر الله تعالى إلى قدر الله تعالى أرأيت لو كان لك إبل فهبطت واديا له عدوتان إحداهما - خصبة والأخرى جدبة ألست إن رعيتها الخصبة رعيتها بقدر الله تعالى وإن رعيتها الجدبة رعيتها بقدر الله تعالى ؟ قال فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان متغيبا في بعض حاجاته فقال إن عندي في هذا علما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا كان بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه وإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه
فصل في هديه في داء الاستسقاء وعلاجه
في " الصحيحين " : من حديث أنس بن مالك قال " قدم رهط من عرينة وعكل على النبي صلى الله عليه وسلم فاجتووا المدينة فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال " لو خرجتم إلى إبل الصدقة فشربتم من أبوالها وألبانها ففعلوا فلما صحوا عمدوا إلى الرعاة فقتلوهم واستاقوا الإبل وحاربوا الله ورسوله فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم فأخذوا فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وألقاهم في الشمس حتى ماتوا " .
والدليل على أن هذا المرض كان الاستسقاء ما رواه مسلم في " صحيحه " في هذا الحديث أنهم قالوا : إنا اجتوينا المدينة فعظمت بطوننا وارتهشت أعضاؤنا وذكر تمام الحديث . ..
والجوى : داء من أدواء الجوف - والاستسقاء مرض مادي سببه مادة غريبة باردة تتخلل الأعضاء فتربو لها إما الأعضاء الظاهرة كلها وإما المواضع الخالية من النواحي التي فيها تدبير الغذاء والأخلاط وأقسامه ثلاثة لحمي وهو أصعبها . وزقي وطبلي .
[ علة الاستشفاء بأبوال الإبل وألبانها ]
ولما كانت الأدوية المحتاج إليها في علاجه هي الأدوية الجالبة التي فيها إطلاق معتدل وإدرار بحسب الحاجة وهذه الأمور موجودة في أبوال الإبل وألبانها أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بشربها فإن في لبن اللقاح جلاء وتليينا وإدرارا وتلطيفا وتفتيحا للسدد إذ كان أكثر رعيها الشيح والقيصوم والبابونج والأقحوان والإذخر وغير ذلك من الأدوية النافعة للاستسقاء .
وهذا المرض لا يكون إلا مع آفة في الكبد خاصة أو مع مشاركة وأكثرها عن السدد فيها ولبن اللقاح العربية نافع من السدد لما فيه من التفتيح والمنافع المذكورة .
قال الرازي : لبن اللقاح يشفي أوجاع الكبد وفساد المزاج وقال الإسرائيلي لبن اللقاح أرق الألبان وأكثرها مائية وحدة وأقلها غذاء فلذلك صار أقواها على تلطيف الفضول وإطلاق البطن وتفتيح السدد ويدل على ذلك ملوحته اليسيرة التي فيه لإفراط حرارة حيوانية بالطبع ولذلك صار أخص الألبان بتطرية الكبد وتفتيح سددها وتحليل صلابة الطحال إذا كان حديثا والنفع من الاستسقاء خاصة إذا استعمل لحرارته التي يخرج بها من الضرع مع بول الفصيل وهو حار كما يخرج من الحيوان فإن ذلك مما يزيد في ملوحته وتقطيعه الفضول وإطلاقه البطن فإن تعذر انحداره وإطلاقه البطن وجب أن يطلق بدواء مسهل .
قال صاحب " القانون " : ولا يلتفت إلى ما يقال من أن طبيعة اللبن مضادة لعلاج الاستسقاء . قال واعلم أن لبن النوق دواء نافع لما فيه من الجلاء برفق وما فيه من خاصية وأن هذا اللبن شديد المنفعة فلو أن إنسانا أقام عليه بدل الماء والطعام شفي به وقد جرب ذلك في قوم دفعوا إلى بلاد العرب فقادتهم الضرورة إلى ذلك فعوفوا . وأنفع الأبوال بول الجمل الأعرابي وهو النجيب انتهى .
[ طهارة بول مأكول اللحم ]
وفي القصة دليل على التداوي والتطبب وعلى طهارة بول مأكول اللحم فإن التداوي بالمحرمات غير جائز ولم يؤمروا مع قرب عهدهم بالإسلام بغسل أفواههم وما أصابته ثيابهم من أبوالها للصلاة وتأخير البيان لا يجوز عن وقت الحاجة . فصل في هديه في علاج الجرح
في " الصحيحين " : عن أبي حازم أنه سمع سهل بن سعد يسأل عما دووي به جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فقال " جرح وجهه وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه وكانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تغسل الدم وكان علي بن أبي طالب يسكب عليها بالمجن فلما رأت فاطمة الدم لا يزيد إلا كثرة أخذت قطعة حصير فأحرقتها حتى إذا صارت رمادا ألصقته بالجرح فاستمسك الدم " برماد الحصير المعمول من البردي وله فعل قوي في حبس الدم لأن فيه تجفيفا قويا وقلة لذع فإن الأدوية القوية التجفيف إذا كان فيها لذع هيجت الدم وجلبته وهذا الرماد إذا نفخ وحده أو مع الخل في أنف الراعف قطع رعافه .
وقال صاحب " القانون " : البردي ينفع من النزف ويمنعه ويذر على الجراحات الطرية فيدملها والقرطاس المصري كان قديما يعمل منه ومزاجه بارد يابس ورماده نافع من أكلة الفم ويحبس نفث الدم ويمنع القروح الخبيثة أن تسعى .
فصل في هديه في العلاج بشرب العسل والحجامة والكي
في " صحيح البخاري " : عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الشفاء في ثلاث : شربة عسل وشرطة محجم وكية نار وأنا أنهى أمتي عن الكي
قال أبو عبد الله المازري : الأمراض الامتلائية : إما أن تكون دموية أو صفراوية أو بلغمية أو سوداوية . فإن كانت دموية فشفاؤها إخراج الدم وإن كانت من الأقسام الثلاثة الباقية فشفاؤها بالإسهال الذي يليق بكل خلط منها وكأنه صلى الله عليه وسلم نبه بالعسل على المسهلات وبالحجامة على الفصد وقد قال بعض الناس إن الفصد يدخل في قوله شرطة محجم . فإذا أعيا الدواء فآخر الطب الكي فذكره صلى الله عليه وسلم في الأدوية لأنه يستعمل عند غلبة الطباع لقوى الأدوية وحيث لا ينفع الدواء المشروب . وقوله وأنا أنهى أمتي عن الكي وفي الحديث الآخر وما أحب أن أكتوي إشارة إلى أن يؤخر العلاج به حتى تدفع الضرورة إليه ولا يعجل التداوي به لما فيه من استعجال الألم الشديد في دفع ألم قد يكون أضعف من ألم الكي انتهى كلامه .
[الأمراض المزاجية وعلاجها ]
وقال بعض الأطباء الأمراض المزاجية إما أن تكون بمادة أو بغير مادة والمادية منها : إما حارة أو باردة أو رطبة أو يابسة أو ما تركب منها وهذه الكيفيات الأربع منها كيفيتان فاعلتان وهما الحرارة والبرودة وكيفيتان منفعلتان وهما الرطوبة واليبوسة ويلزم من غلبة إحدى الكيفيتين الفاعلتين استصحاب كيفية منفعلة معها وكذلك كان لكل واحد من الأخلاط الموجودة في البدن وسائر المركبات كيفيتان فاعلة ومنفعلة .
[ العلاج بإخراج الدم ]
فحصل من ذلك أن أصل الأمراض المزاجية هي التابعة لأقوى كيفيات الأخلاط التي هي الحرارة والبرودة فجاء كلام النبوة في أصل معالجة الأمراض التي هي الحارة والباردة على طريق التمثيل فإن كان المرض حارا عالجناه بإخراج الدم بالفصد كان أو بالحجامة لأن في ذلك استفراغا للمادة وتبريدا للمزاج . وإن كان باردا عالجناه بالتسخين وذلك موجود في العسل فإن كان يحتاج مع ذلك إلى استفراغ المادة الباردة فالعسل أيضا يفعل في ذلك لما فيه من الإنضاج والتقطيع والتلطيف والجلاء والتليين فيحصل بذلك استفراغ تلك المادة برفق وأمن من نكاية المسهلات القوية .
[ العلاج بالكي]
وأما الكي فلأن كل واحد من الأمراض المادية إما أن يكون حادا فيكون سريع الإفضاء لأحد الطرفين فلا يحتاج إليه فيه وإما أن يكون مزمنا وأفضل علاجه بعد الاستفراغ الكي في الأعضاء التي يجوز فيها الكي لأنه لا يكون مزمنا إلا عن مادة باردة غليظة قد رسخت في العضو وأفسدت مزاجه وأحالت جميع ما يصل إليه إلى مشابهة جوهرها فيشتعل في ذلك العضو فيستخرج بالكي تلك المادة من ذلك المكان الذي هو فيه بإفناء الجزء الناري الموجود بالكي لتلك المادة . فتعلمنا بهذا الحديث الشريف أخذ معالجة الأمراض المادية جميعها كما استنبطنا معالجة الأمراض الساذجة من قوله صلى الله عليه وسلم إن شدة الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء .
فصل [ العلاج بالحجامة ]
وأما الحجامة ففي " سنن ابن ماجه " من حديث جبارة بن المغلس - وهو ضعيف - عن كثير بن سليم قال سمعت أنس بن مالك يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مررت ليلة أسري بي بملإ إلا قالوا : يا محمد مر أمتك بالحجامة وروى الترمذي في " جامعه " من حديث ابن عباس هذا الحديث وقال فيه عليك بالحجامة يا محمد وفي " الصحيحين " : من حديث طاووس عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجام أجره وفي " الصحيحين " أيضا عن حميد الطويل عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حجمه أبو طيبة فأمر له بصاعين من طعام وكلم مواليه فخففوا عنه من ضريبته وقال خير ما تداويتم به الحجامة
وفي " جامع الترمذي " عن عباد بن منصور قال سمعت عكرمة يقول كان لابن عباس غلمة ثلاثة حجامون فكان اثنان يغلان عليه وعلى أهله وواحد لحجمه وحجم أهله . قال وقال ابن عباس : قال نبي الله صلى الله عليه وسلم نعم العبد الحجام يذهب بالدم ويخف الصلب ويجلو البصر وقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث عرج به ما مر على ملإ من الملائكة إلا قالوا : عليك بالحجامة وقال : إن خير ما تحتجمون فيه يوم سبع عشرة ويوم تسع عشرة ويوم إحدى وعشرين وقال إن خير ما تداويتم به السعوط واللدود والحجامة والمشي وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لد فقال من لدني ؟ فكلهم أمسكوا فقال لا يبقى أحد في البيت إلا لد إلا العباس قال هذا حديث غريب ورواه ابن ماجه فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الصرع
أخرجا في " الصحيحين " من حديث عطاء بن أبي رباح قال قال ابن عباس : ألا أريك امرأة من أهل الجنة ؟ قلت : بلى . قال هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إني أصرع وإني أتكشف فادع الله لي فقال " إن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت دعوت الله لك أن يعافيك " فقالت أصبر . قالت فإني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف فدعا لها
قلت الصرع صرعان صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية وصرع من الأخلاط الرديئة . والثاني : هو الذي يتكلم فيه الأطباء في سببه وعلاجه .
[ إثبات صرع الأرواح ]
وأما صرع الأرواح فأئمتهم وعقلاؤهم يعترفون به ولا يدفعونه ويعترفون بأن علاجه بمقابلة الأرواح الشريفة الخيرة العلوية لتلك الأرواح الشريرة الخبيثة فتدافع آثارها وتعارض أفعالها وتبطلها وقد نص على ذلك إبقراط في بعض كتبه فذكر بعض علاج الصرع وقال هذا إنما ينفع من الصرع الذي سببه الأخلاط والمادة . وأما الصرع الذي يكون من الأرواح فلا ينفع فيه هذا العلاج .
وأما جهلة الأطباء وسقطهم وسفلتهم ومن يعتقد بالزندقة فضيلة فأولئك ينكرون صرع الأرواح ولا يقرون بأنها تؤثر في بدن المصروع وليس معهم إلا الجهل وإلا فليس في الصناعة الطبية ما يدفع ذلك والحس والوجود شاهد به وإحالتهم ذلك على غلبة بعض الأخلاط هو صادق في بعض أقسامه لا في كلها .
وقدماء الأطباء كانوا يسمون هذا الصرع المرض الإلهي وقالوا : إنه من الأرواح وأما جالينوس وغيره فتأولوا عليهم هذه التسمية وقالوا : إنما سموه بالمرض الإلهي لكون هذه العلة تحدث في الرأس فتضر بالجزء الإلهي الطاهر الذي مسكنه الدماغ .
وهذا التأويل نشأ لهم من جهلهم بهذه الأرواح وأحكامها وتأثيراتها وجاءت زنادقة الأطباء فلم يثبتوا إلا صرع الأخلاط وحده . ومن له عقل ومعرفة بهذه الأرواح وتأثيراتها يضحك من جهل هؤلاء وضعف عقولهم .
[ العلاج من صرع الأرواح ]
وعلاج هذا النوع يكون بأمرين أمر من جهة المصروع وأمر من جهة المعالج فالذي من جهة المصروع يكون بقوة نفسه وصدق توجهه إلى فاطر هذه الأرواح وبارئها والتعوذ الصحيح الذي قد تواطأ عليه القلب واللسان فإن هذا نوع محاربة والمحارب لا يتم له الانتصاف من عدوه بالسلاح إلا بأمرين أن يكون السلاح صحيحا في نفسه جيدا وأن يكون الساعد قويا فمتى تخلف أحدهما لم يغن السلاح كثير طائل فكيف إذا عدم الأمران جميعا : يكون القلب خرابا من التوحيد والتوكل والتقوى والتوجه ولا سلاح له . والثاني : من جهة المعالج بأن يكون فيه هذان الأمران أيضا حتى إن من المعالجين من يكتفي بقوله " اخرج منه " . أو بقول " بسم الله " أو بقول " لا حول ولا قوة إلا بالله " والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول اخرج عدو الله أنا رسول الله
[ علاج ابن تيمية للمصروع ]
وشاهدت شيخنا يرسل إلى المصروع من يخاطب الروح التي فيه ويقول قال لك الشيخ اخرجي فإن هذا لا يحل لك فيفيق المصروع وربما خاطبها بنفسه وربما كانت الروح ماردة فيخرجها بالضرب فيفيق المصروع ولا يحس بألم وقد شاهدنا نحن وغيرنا منه ذلك مرارا . وكان كثيرا ما يقرأ في أذن المصروع أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون [ المؤمنون 115 ] .
وحدثني أنه قرأها مرة في أذن المصروع فقالت الروح نعم ومد بها صوته . قال فأخذت له عصا وضربته بها في عروق عنقه حتى كلت يداي من الضرب ولم يشك الحاضرون أنه يموت لذلك الضرب . ففي أثناء الضرب قالت أنا أحبه فقلت لها : هو لا يحبك قالت أنا أريد أن أحج به فقلت لها : هو لا يريد أن يحج معك فقالت أنا أدعه كرامة لك قال قلت لا ولكن طاعة لله ولرسوله قالت فأنا أخرج منه قال فقعد المصروع يلتفت يمينا وشمالا وقال ما جاء بي إلى حضرة الشيخ قالوا له وهذا الضرب كله ؟ فقال وعلى أي شيء يضربني الشيخ ولم أذنب ولم يشعر بأنه وقع به ضرب ألبتة .
وكان يعالج بآية الكرسي وكان يأمر بكثرة قراءتها المصروع ومن يعالجه بها وبقراءة المعوذتين .
[ التفات المصنف إلى خراب القلوب ]
وبالجملة فهذا النوع من الصرع وعلاجه لا ينكره إلا قليل الحظ من العلم والعقل والمعرفة وأكثر تسلط الأرواح الخبيثة على أهله تكون من جهة قلة دينهم وخراب قلوبهم وألسنتهم من حقائق الذكر والتعاويذ والتحصنات النبوية والإيمانية فتلقى الروح الخبيثة الرجل أعزل لا سلاح معه وربما كان عريانا فيؤثر فيه هذا .
ولو كشف الغطاء لرأيت أكثر النفوس البشرية صرعى هذه الأرواح الخبيثة وهي في أسرها وقبضتها تسوقها حيث شاءت ولا يمكنها الامتناع عنها ولا مخالفتها وبها الصرع الأعظم الذي لا يفيق صاحبه إلا عند المفارقة والمعاينة فهناك يتحقق أنه كان هو المصروع حقيقة وبالله المستعان .
وعلاج هذا الصرع باقتران العقل الصحيح إلى الإيمان بما جاءت به الرسل وأن تكون الجنة والنار نصب عينيه وقبلة قلبه ويستحضر أهل الدنيا وحلول المثلات والآفات بهم ووقوعها خلال ديارهم كمواقع القطر وهم صرعى لا يفيقون وما أشد داء هذا الصرع ولكن لما عمت البلية به بحيث لا يرى إلا مصروعا لم يصر مستغربا ولا مستنكرا بل صار لكثرة المصروعين عين المستنكر المستغرب خلافه . فإذا أراد الله بعبد خيرا أفاق من هذه الصرعة ونظر إلى أبناء الدنيا مصروعين حوله يمينا وشمالا على اختلاف طبقاتهم فمنهم من أطبق به الجنون ومنهم من يفيق أحيانا قليلة ويعود إلى جنونه ومنهم من يفيق مرة ويجن أخرى فإذا أفاق عمل عمل أهل الإفاقة والعقل ثم يعاوده الصرع فيقع في التخبط .
فصل [ صرع الأخلاط ]
وأما صرع الأخلاط فهو علة تمنع الأعضاء النفسية عن الأفعال والحركة والانتصاب منعا غير تام وسببه خلط غليظ لزج يسد منافذ بطون الدماغ سدة غير تامة فيمتنع نفوذ الحس والحركة فيه وفي الأعضاء نفوذا تاما من غير انقطاع بالكلية وقد تكون لأسباب أخر كريح غليظ يحتبس في منافذ الروح أو بخار رديء يرتفع إليه من بعض الأعضاء أو كيفية لاذعة فينقبض الدماغ لدفع المؤذي فيتبعه تشنج في جميع الأعضاء ولا يمكن أن يبقى الإنسان معه منتصبا بل يسقط ويظهر في فيه الزبد غالبا .
وهذه العلة تعد من جملة الأمراض الحادة باعتبار وقت وجوده المؤلم خاصة وقد تعد من جملة الأمراض المزمنة باعتبار طول مكثها وعسر برئها لا سيما إن تجاوز في السن خمسا وعشرين سنة وهذه العلة في دماغه وخاصة في جوهره فإن صرع هؤلاء يكون لازما . قال إبقراط : إن الصرع يبقى في هؤلاء حتى يموتوا .
[ لعل صرع المرأة التي وردت في الحديث كان صرعها من صرع الأخلاط ]
إذا عرف هذا فهذه المرأة التي جاء الحديث أنها كانت تصرع وتتكشف يجوز أن يكون صرعها من هذا النوع فوعدها النبي صلى الله عليه وسلم الجنة بصبرها على هذا المرض ودعا لها أن لا تتكشف وخيرها بين الصبر والجنة وبين الدعاء لها بالشفاء من غير ضمان فاختارت الصبر والجنة .
[ جواز ترك التداوي وأن علاج الأرواح بالتوجه إلى الله يفعل ما لا يناله علاج الأطباء]
وفي ذلك دليل على جواز ترك المعالجة والتداوي وأن علاج الأرواح بالدعوات والتوجه إلى الله يفعل ما لا يناله علاج الأطباء وأن تأثيره وفعله وتأثر الطبيعة عنه وانفعالها أعظم من تأثير الأدوية البدنية وانفعال الطبيعة عنها وقد جربنا هذا مرارا نحن وغيرنا وعقلاء الأطباء معترفون بأن لفعل القوى النفسية وانفعالاتها في شفاء الأمراض عجائب وما على الصناعة الطبية أضر من زنادقة القوم وسفلتهم وجهالهم . والظاهر أن صرع هذه المرأة كان من هذا النوع ويجوز أن يكون من جهة الأرواح ويكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خيرهفصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج عرق النسا
روى ابن ماجه في " سننه " من حديث محمد بن سيرين عن أنس بن مالك قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول دواء عرق النسا ألية شاة أعرابية تذاب ثم تجزأ ثلاثة أجزاء ثم يشرب على الريق في كل يوم جزء
عرق النساء وجع يبتدئ من مفصل الورك وينزل من خلف على الفخذ وربما على الكعب وكلما طالت مدته زاد نزوله وتهزل معه الرجل والفخذ وهذا الحديث فيه معنى لغوي ومعنى طبي . فأما المعنى اللغوي فدليل على جواز تسمية هذا المرض بعرق النسا خلافا لمن منع هذه التسمية وقال النسا هو العرق نفسه فيكون من باب إضافة الشيء إلى نفسه وهو ممتنع وجواب هذا القائل من وجهين
أحدهما : أن العرق أعم من النسا فهو من باب إضافة العام إلى الخاص نحو كل الدراهم أو بعضها .
الثاني : أن النسا : هو المرض الحال بالعرق والإضافة فيه من باب إضافة الشيء إلى محله وموضعه . قيل وسمي بذلك لأن ألمه ينسي ما سواه وهذا العرق ممتد من مفصل الورك وينتهي إلى آخر القدم وراء الكعب من الجانب الوحشي فيما بين عظم الساق والوتر .
وأما المعنى الطبي فقد تقدم أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم نوعان
أحدهما : عام بحسب الأزمان والأماكن والأشخاص والأحوال .
والثاني : خاص بحسب هذه الأمور أو بضعها وهذا من هذا القسم فإن هذا خطاب للعرب وأهل الحجاز ومن جاورهم ولا سيما أعراب البوادي فإن هذا العلاج من أنفع العلاج لهم فإن هذا المرض يحدث من يبس وقد يحدث من مادة غليظة لزجة فعلاجها بالإسهال .
والألية فيها الخاصيتان الإنضاج والتليين ففيها الإنضاج والإخراج . وهذا المرض يحتاج علاجه إلى هذين الأمرين وفي تعيين الشاة الأعرابية لقلة فضولها وصغر مقدارها ولطف جوهرها وخاصية مرعاها لأنها ترعى أعشاب البر الحارة كالشيح والقيصوم ونحوهما وهذه النباتات إذا تغذى بها الحيوان صار في لحمه من طبعها بعد أن يلطفها تغذيه بها ويكسبها مزاجا ألطف منها ولا سيما الألية وظهور فعل هذه النباتات في اللبن أقوى منه في اللحم ولكن الخاصية التي في الألية من الإنضاج والتليين لا توجد في اللبن وهذا كما تقدم أن أدوية غالب الأمم والبوادي هي الأدوية المفردة وعليه أطباء الهند .
وأما الروم واليونان فيعتنون بالمركبة وهم متفقون كلهم على أن من مهارة الطبيب أن يداوي بالغذاء فإن عجز فبالمفرد فإن عجز فبما كان أقل تركيبا .
اليونان فيعتنون بالمركبة وهم متفقون كلهم على أن من مهارة الطبيب أن يداوي بالغذاء فإن عجز فبالمفرد فإن عجز فبما كان أقل تركيبا .
وقد تقدم أن غالب عادات العرب وأهل البوادي الأمراض البسيطة فالأدوية البسيطة تناسبها وهذا لبساطة أغذيتهم في الغالب . وأما الأمراض المركبة فغالبا ما تحدث عن تركيب الأغذية وتنوعها واختلافها فاختيرت لها الأدوية المركبة والله تعالى أعلم .
ا بين الصبر على ذلك مع الجنة وبين الدعاء لها بالشفاء فاختارت الصبر والستر والله أعلم .
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج يبس الطبع واحتياجه إلى ما يمشيه ويلينه
روى الترمذي في " جامعه " وابن ماجه في " سننه " من حديث أسماء بنت عميس قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بماذا كنت تستمشين ؟ قالت بالشبرم قال حار جار قالت ثم استمشيت بالسنا فقال " لو كان شيء يشفي من الموت لكان السنا . وفي " سنن ابن ماجه " عن إبراهيم بن أبي عبلة قال سمعت عبد الله بن أم حرام وكان قد صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلتين يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عليكم بالسنا والسنوت فإن فيهما شفاء من كل داء إلا السام " قيل يا رسول الله وما السام ؟ قال الموت .
[العلاج بالشبرم ]
قوله بماذا كنت تستمشين ؟ أي تلينين الطبع حتى يمشي ولا يصير بمنزلة الواقف فيؤذي باحتباس النجو ولهذا سمي الدواء المسهل مشيا على وزن فعيل . وقيل لأن المسهول يكثر المشي والاختلاف للحاجة وقد روي بماذا تستشفين ؟ فقالت بالشبرم وهو من جملة الأدوية اليتوعية وهو قشر عرق شجرة وهو حار يابس في الدرجة الرابعة وأجوده المائل إلى الحمرة الخفيف الرقيق الذي يشبه الجلد الملفوف وبالجملة فهو من الأدوية التي أوصى الأطباء بترك استعمالها لخطرها وفرط إسهالها .
وقوله صلى الله عليه وسلم " حار جار " ويروى : حار يار قال أبو عبيد : وأكثر كلامهم بالياء . قلت : وفيه قولان أحدهما : أن الحار الجار بالجيم الشديد الإسهال فوصفه بالحرارة وشدة الإسهال وكذلك هو قاله أبو حنيفة الدينوري .
[ما المقصود بالإتباع ]
والثاني - وهو الصواب - أن هذا من الإتباع الذي يقصد به تأكيد الأول ويكون بين التأكيد اللفظي والمعنوي ولهذا يراعون فيه إتباعه في أكثر حروفه كقولهم حسن بسن أي كامل الحسن وقولهم حسن قسن بالقاف ومنه شيطان ليطان وحار جار مع أن في الجار معنى آخر وهو الذي يجر الشيء الذي يصيبه من شدة حرارته وجذبه له كأنه ينزعه ويسلخه . ويار إما لغة في جار كقولهم صهري وصهريج والصهاري والصهاريج وإما إتباع مستقل .
[ نبات السنا ]
وأما السنا ففيه لغتان المد والقصر وهو نبت حجازي أفضله المكي وهو دواء شريف مأمون الغائلة قريب من الاعتدال حار يابس في الدرجة الأولى يسهل الصفراء والسوداء ويقوي جرم القلب وهذه فضيلة شريفة فيه وخاصيته النفع من الوسواس السوداوي ومن الشقاق العارض في البدن ويفتح العضل وينفع من انتشار الشعر ومن القمل والصداع العتيق والجرب والبثور والحكة والصرع وشرب مائه مطبوخا أصلح من شربه مدقوقا ومقدار الشربة منه ثلاثة دراهم ومن مائه خمسة دراهم وإن طبخ معه شيء من زهر البنفسج والزبيب الأحمر المنزوع العجم كان أصلح .
قال الرازي : السناء والشاهترج يسهلان الأخلاط المحترقة وينفعان من الجرب والحكة والشربة من كل واحد منهما من أربعة دراهم إلى سبعة دراهم
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج حكة الجسم وما يولد القمل
في " الصحيحين " من حديث قتادة عن أنس بن مالك قال رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام رضي الله تعالى عنهما في لبس الحرير لحكة كانت بهما
وفي رواية أن عبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام رضي الله تعالى عنهما شكوا القمل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة لهما فرخص لهما في قمص الحرير ورأيته عليهما .
هذا الحديث يتعلق به أمران أحدهما فقهي والآخر طبي[ أسباب الصداع ]
والصداع يكون عن أسباب عديدة
أحدها : من غلبة واحد من الطبائع الأربعة .
والخامس يكون من قروح تكون في المعدة فيألم الرأس لذلك الورم لاتصال العصب المنحدر من الرأس بالمعدة .
والسادس من ريح غليظة تكون في المعدة فتصعد إلى الرأس فتصدعه .
والسابع يكون من ورم في عروق المعدة فيألم الرأس بألم المعدة للاتصال الذي بينهما .
والثامن صداع يحصل عن امتلاء المعدة من الطعام ثم ينحدر ويبقى بعضه نيئا فيصدع الرأس ويثقله .
والتاسع يعرض بعد الجماع لتخلخل الجسم فيصل إليه من حر الهواء أكثر من قدره .
والعاشر صداع يحصل بعد القيء والاستفراغ إما لغلبة اليبس وإما لتصاعد الأبخرة من المعدة إليه .
والحادي عشر صداع يعرض عن شدة الحر وسخونة الهواء .
والثاني عشر ما يعرض عن شدة البرد وتكاثف الأبخرة في الرأس وعدم تحللها .
والثالث عشر ما يحدث من السهر وعدم النوم .
والرابع عشر ما يحدث من ضغط الرأس وحمل الشيء الثقيل عليه .
والخامس عشر ما يحدث من كثرة الكلام فتضعف قوة الدماغ لأجله .
والسادس عشر ما يحدث من كثرة الحركة والرياضة المفرطة .
والسابع عشر ما يحدث من الأعراض النفسانية كالهموم والغموم والأحزان والوساوس والأفكار الرديئة .
والثامن عشر ما يحدث من شدة الجوع فإن الأبخرة لا تجد ما تعمل فيه فتكثر وتتصاعد إلى الدماغ فتؤلمه .
والتاسع عشر ما يحدث عن ورم في صفاق الدماغ ويجد صاحبه كأنه يضرب بالمطارق على رأسه .
والعشرون ما يحدث بسبب الحمى لاشتعال حرارتها فيه فيتألم والله أعلم .
فصل [ سبب صداع الشقيقة ]
[ تعصيب الرأس يسكن الوجع ]
وسبب صداع الشقيقة مادة في شرايين الرأس وحدها حاصلة فيها أو مرتقية إليها فيقبلها الجانب الأضعف من جانبيه وتلك المادة إما بخارية وإما أخلاط حارة أو باردة وعلامتها الخاصة بها ضربان الشرايين وخاصة في الدموي . وإذا ضبطت بالعصائب ومنعت من الضربان سكن الوجع .
وقد ذكر أبو نعيم في كتاب " الطب النبوي " له أن هذا النوع كان يصيب النبي صلى الله عليه وسلم فيمكث اليوم واليومين ولا يخرج . وفيه عن ابن عباس قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد عصب رأسه بعصابة
وفي " الصحيح " أنه قال في مرض موته وارأساه وكان يعصب رأسه في مرضه وعصب الرأس ينفع في وجع الشقيقة وغيرها من أوجاع الرأس .
فصل [ علاج الصداع ]
وعلاجه يختلف باختلاف أنواعه وأسبابه فمنه ما علاجه بالاستفراغ ومنه ما علاجه بتناول الغذاء ومنه ما علاجه بالسكون والدعة ومنه ما علاجه بالضمادات ومنه ما علاجه بالتبريد ومنه ما علاجه بالتسخين ومنه ما علاجه بأن يجتنب سماع الأصوات والحركات .
[ العلاج بالحناء جزئي ]
إذا عرف هذا فعلاج الصداع في هذا الحديث بالحناء هو جزئي لا كلي وهو علاج نوع من أنواعه فإن الصداع إذا كان من حرارة ملهبة ولم يكن من مادة يجب استفراغها نفع فيه الحناء نفعا ظاهرا وإذا دق وضمدت به الجبهة مع الخل سكن الصداع وفيه قوة موافقة للعصب إذا ضمد به سكنت أوجاعه وهذا لا يختص بوجع الرأس بل يعم الأعضاء وفيه قبض تشد به الأعضاء وإذا ضمد به موضع الورم الحار والملتهب سكنه .
وقد روى البخاري في " تاريخه " وأبو داود في " السنن " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شكا إليه أحد وجعا في رأسه إلا قال له " احتجم " ولا شكا إليه وجعا في رجليه إلا قال له " اختضب بالحناء " .
وفي الترمذي عن سلمى أم رافع خادمة النبي صلى الله عليه وسلم قالت كان لا يصيب النبي صلى الله عليه وسلم قرحة ولا شوكة إلا وضع عليها الحناء .

ل في هديه صلى الله عليه وسلم في معالجة المرضى بترك إعطائهم ما يكرهونه من الطعام والشراب وإنهم لا يكرهون على تناولهما
روى الترمذي في " جامعه " وابن ماجه عن عقبة بن عامر الجهني قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب فإن الله عز وجل يطعمهم ويسقيهم
قال بعض فضلاء الأطباء ما أغزر فوائد هذه الكلمة النبوية المشتملة على حكم إلهية لا سيما للأطباء ولمن يعالج المرضى وذلك أن المريض إذا عاف الطعام أو الشراب فذلك لاشتغال الطبيعة بمجاهدة المرض أو لسقوط شهوته أو نقصانها لضعف الحرارة الغريزية أو خمودها وكيفما كان فلا يجوز حينئذ إعطاء الغذاء في هذه الحالة .
واعلم أن الجوع إنا هو طلب الأعضاء للغذاء لتخلف الطبيعة به عليها عوض ما يتحلل منها فتجذب الأعضاء القصوى من الأعضاء الدنيا حتى ينتهي الجذب إلى المعدة فيحس الإنسان بالجوع فيطلب الغذاء وإذا وجد المرض اشتغلت الطبيعة بمادته وإنضاجها وإخراجها عن طلب الغذاء أو الشراب فإذا أكره المريض على استعمال شيء من ذلك تعطلت به الطبيعة عن فعلها واشتغلت بهضمه وتدبيره عن إنضاج مادة المرض ودفعه فيكون ذلك سببا لضرر المريض ولا سيما في أوقات البحران أو ضعف الحار الغريزي أو خموده فيكون ذلك زيادة في البلية وتعجيل النازلة المتوقعة ولا ينبغي أن يستعمل في هذا الوقت والحال إلا ما يحفظ عليه قوته ويقويها من غير استعمال مزعج للطبيعة ألبتة وذلك يكون بما لطف قوامه من الأشربة والأغذية واعتدل مزاجه كشراب اللينوفر والتفاح والورد الطري وما أشبه ذلك ومن الأغذية مرق الفراريج المعتدلة الطيبة فقط وإنعاش قواه بالأراييح العطرة الموافقة والأخبار السارة فإن الطبيب خادم الطبيعة ومعينها لا معيقها .
واعلم أن الدم الجيد هو المغذي للبدن وأن البلغم دم فج قد نضج بعض النضج فإذا كان بعض المرضى في بدنه بلغم كثير وعدم الغذاء عطفت الطبيعة عليه وطبخته وأنضجته وصيرته دما وغذت به الأعضاء واكتفت به عما سواه والطبيعة هي القوة التي وكلها الله سبحانه بتدبير البدن وحفظه وصحته وحراسته مدة حياته .
[ إجبار المريض على الطعام ]
واعلم أنه قد يحتاج في الندرة إلى إجبار المريض على الطعام والشراب وذلك في الأمراض التي يكون معها اختلاط العقل وعلى هذا فيكون الحديث من العام المخصوص أو من المطلق الذي قد دل على تقييده دليل ومعنى الحديث أن المريض قد يعيش بلا غذاء أياما لا يعيش الصحيح في مثلها .
[ معنى فإن الله يطعمهم ويسقيهم ]
" وفي قوله صلى الله عليه وسلم " فإن الله يطعمهم ويسقيهم " معنى لطيف زائد على ما ذكره الأطباء لا يعرفه إلا من له عناية بأحكام القلوب والأرواح وتأثيرها في طبيعة البدن وانفعال الطبيعة عنها كما تنفعل هي كثيرا عن الطبيعة ونحن نشير إليه إشارة فنقول النفس إذا حصل لها ما يشغلها من محبوب أو مكروه أو مخوف اشتغلت به عن طلب الغذاء والشراب فلا تحس بجوع ولا عطش بل ولا حر ولا برد بل تشتغل به عن الإحساس المؤلم الشديد الألم فلا تحس به وما من أحد إلا وقد وجد في نفسه ذلك أو شيئا منه وإذا اشتغلت النفس بما دهمها وورد عليها لم تحس بألم الجوع فإن كان الوارد مفرحا قوي التفريح قام لها مقام الغذاء فشبعت به وانتعشت قواها وتضاعفت وجرت الدموية في الجسد حتى تظهر في سطحه فيشرق وجهه وتظهر دمويته فإن الفرح يوجب انبساط دم القلب فينبعث في العروق فتمتلئ به فلا تطلب الأعضاء حظها من الغذاء المعتاد لاشتغالها بما هو أحب إليها وإلى الطبيعة منه والطبيعة إذا ظفرت بما تحب آثرته على ما هو دونه .
وإن كان الوارد مؤلما أو محزنا أو مخوفا اشتغلت بمحاربته ومقاومته ومدافعته عن طلب الغذاء فهي في حال حربها في شغل عن طلب الطعام والشراب . فإن ظفرت في هذا الحرب انتعشت قواها وأخلفت عليها نظير ما فاتها من قوة الطعام والشراب وإن كانت مغلوبة مقهورة انحطت قواها بحسب ما حصل لها من ذلك وإن كانت الحرب بينها وبين هذا العدو سجالا فالقوة تظهر تارة وتختفي أخرى وبالجملة فالحرب بينهما على مثال الحرب الخارج بين العدوين المتقاتلين والنصر للغالب والمغلوب إما قتيل وإما جريح وإما أسير .
فالمريض له مدد من الله تعالى يغذيه به زائدا على ما ذكره الأطباء من تغذيته بالدم وهذا المدد بحسب ضعفه وانكساره وانطراحه بين يدي ربه عز وجل فيحصل له من ذلك ما يوجب له قربا من ربه فإن العبد أقرب ما يكون من ربه إذا انكسر قلبه ورحمة ربه عندئذ قريبة منه فإن كان وليا له حصل له من الأغذية القلبية ما تقوى به قوى طبيعته وتنتعش به قواه أعظم من قوتها وانتعاشها بالأغذية البدنية وكلما قوي إيمانه وحبه لربه وأنسه به وفرحه به وقوي يقينه بربه واشتد شوفه إليه ورضاه به وعنه وجد في نفسه من هذه القوة ما لا يعبر عنه ولا يدركه وصف طبيب ولا يناله علمه .
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج العذرة وفي العلاج بالسعوط
ثبت عنه في " الصحيحين " أنه قال خير ما تداويتم به الحجامة والقسط البحري ولا تعذبوا صبيانكم بالغمز من العذرة "
وفي " السنن " و " المسند " عنه من حديث جابر بن عبد الله قال دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة وعندها صبي يسيل منخراه دما فقال ما هذا ؟ " . فقالوا : به العذرة أو وجع في رأسه فقال " ويلكن لا تقتلن أولادكن أيما امرأة أصاب ولدها عذرة أو وجع في رأسه فلتأخذ قسطا هنديا فلتحكه بماء ثم تسعطه إياه فأمرت عائشة رضي الله عنها فصنع ذلك بالصبي فبرأ .
قال أبو عبيد عن أبي عبيدة العذرة تهيج في الحلق من الدم فإذا عولج منه قيل قد عذر به فهو معذور انتهى . وقيل العذرة قرحة تخرج فيما بين الأذن والحلق وتعرض للصبيان غالبا .
[ علاج العذرة بسعوط القسط ]
وأما نفع السعوط منها بالقسط المحكوك فلأن العذرة مادتها دم يغلب عليه البلغم لكن تولده في أبدان الصبيان أكثر وفي القسط تجفيف يشد اللهاة ويرفعها إلى مكانها وقد يكون نفعه في هذا الداء بالخاصية وقد ينفع في الأدواء الحارة والأدوية الحارة بالذات تارة وبالعرض أخرى .
وقد ذكر صاحب " القانون " في معالجة سقوط اللهاة القسط مع الشب اليماني وبزر المرو .
والقسط البحري المذكور في الحديث هو العود الهندي وهو الأبيض منه وهو حلو وفيه منافع عديدة وكانوا يعالجون أولادهم بغمز اللهاة وبالعلاق وهو شيء يعلقونه على الصبيان فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأرشدهم إلى ما هو أنفع للأطفال وأسهل عليهم .
والسعوط ما يصب في الأنف وقد يكون بأدوية مفردة ومركبة تدق وتنخل وتعجن وتجفف ثم تحل عند الحاجة ويسعط بها في أنف الإنسان وهو مستلق على ظهره وبين كتفيه ما يرفعهما لتنخفض رأسه فيتمكن السعوط من الوصول إلى دماغه ويستخرج ما فيه من الداء بالعطاس وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم التداوي بالسعوط فيما يحتاج إليه فيه .
وذكر أبو داود في " سننه " أن النبي صلى الله عليه وسلم استعط
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج المفئود
روى أبو داود في " سننه " من حديث مجاهد عن سعد قال مرضت مرضا فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني فوضع يده بين ثديي حتى وجدت بردها على فؤادي وقال لي : " إنك رجل مفئود فأت الحارث بن كلدة من ثقيف فإنه رجل يتطبب فليأخذ سبع تمرات من عجوة المدينة فليجأهن بنواهن ثم ليلدك بهن "
المفئود الذي أصيب فؤاده فهو يشتكيه كالمبطون الذي يشتكي بطنه .
واللدود ما يسقاه الإنسان من أحد جانبي الفم .
[ علاج المفئود بالتمر ]
وفي التمر خاصية عجيبة لهذا الداء ولا سيما تمر المدينة ولا سيما العجوة منه . وفي كونها سبعا خاصية أخرى تدرك بالوحي وفي " الصحيحين " : من حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من تصبح بسبع تمرات من تمر العالية لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر وفي لفظ من أكل سبع تمرات مما بين لابتيها حين يصبح لم يضره سم حتى يمسي
فصل [ من شرط انتفاع العليل بالدواء قبوله واعتقاد النفع به ]
ويجوز نفع التمر المذكور في بعض السموم فيكون الحديث من العام المخصوص ويجوز نفعه لخاصية تلك البلد وتلك التربة الخاصة من كل سم ولكن ها هنا أمر لا بد من بيانه وهو أن من شرط انتفاع العليل بالدواء قبوله واعتقاد النفع به فتقبله الطبيعة فتستعين به على دفع العلة حتى إن كثيرا من المعالجات ينفع بالاعتقاد وحسن القبول وكمال التلقي وقد شاهد الناس من ذلك عجائب وهذا لأن الطبيعة يشتد قبولها له وتفرح النفس به فتنتعش القوة ويقوى سلطان الطبيعة وينبعث الحار الغريزي فيساعد على دفع المؤذي وبالعكس يكون كثير من الأدوية نافعا لتلك العلة فيقطع عمله سوء اعتقاد العليل فيه وعدم أخذ الطبيعة له بالقبول فلا يجدي عليها شيئا .
واعتبر هذا بأعظم الأدوية والأشفية وأنفعها للقلوب والأبدان والمعاش والمعاد والدنيا والآخرة وهو القرآن الذي هو شفاء من كل داء كيف لا ينفع القلوب التي لا تعتقد فيه الشفاء والنفع بل لا يزيدها إلا مرضا إلى مرضها وليس لشفاء القلوب دواء قط أنفع من القرآن فإنه شفاؤها التام الكامل الذي لا يغادر فيها سقما إلا أبرأه ويحفظ عليها صحتها المطلقة ويحميها الحمية التامة من كل مؤذ ومضر ومع هذا فإعراض أكثر القلوب عنه وعدم اعتقادها الجازم الذي لا ريب فيه أنه كذلك وعدم استعماله والعدول عنه إلى الأدوية التي ركبها بنو جنسها حال بينها وبين الشفاء به وغلبت العوائد واشتد الإعراض وتمكنت العلل والأدواء المزمنة من القلوب وتربى المرضى والأطباء على علاج بني جنسهم وما وضعه لهم شيوخهم ومن يعظمونه ويحسنون به ظنونهم فعظم المصاب واستحكم الداء وتركبت أمراض وعلل أعيا عليهم علاجها وكلما عالجوها بتلك العلاجات الحادثة تفاقم أمرها وقويت ولسان الحال ينادي عليهم
ومن العجائب والعجائب جمة قرب الشفاء وما إليه وصول
كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في دفع ضرر الأغذية والفاكهة وإصلاحها بما يدفع ضررها ويقوي نفعها
ثبت في " الصحيحين " من حديث عبد الله بن جعفر قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل الرطب بالقثاء
والرطب حار رطب في الثانية يقوي المعدة الباردة ويوافقها ويزيد في الباه ولكنه سريع التعفن معطش معكر للدم مصدع مولد للسدد ووجع المثانة ومضر بالأسنان والقثاء بارد رطب في الثانية مسكن للعطش منعش للقوى بشمه لما فيه من العطرية مطفئ لحرارة المعدة الملتهبة وإذا جفف بزره ودق واستحلب بالماء وشرب سكن العطش وأدر البول ونفع من وجع المثانة .
وإذا دق ونخل ودلك به الأسنان جلاها وإذا دق ورقه وعمل منه ضماد مع الميبختج نفع من عضة الكلب الكلب . وبالجملة فهذا حار وهذا بارد وفي كل منهما صلاح الآخر وإزالة لأكثر ضرره ومقاومة كل كيفية بضدها ودفع سورتها بالأخرى وهذا أصل العلاج كله وهو أصل في حفظ الصحة بل علم الطب كله يستفاد من هذا .
وفي استعمال ذلك وأمثاله في الأغذية والأدوية إصلاح لها وتعديل ودفع لما فيها من الكيفيات المضرة لما يقابلها وفي ذلك عون على صحة البدن وقوته وخصبه قالت عائشة رضي الله عنها : سمنوني بكل شيء فلم أسمن فسمنوني بالقثاء والرطب فسمنت . وبالجملة فدفع ضرر البارد بالحار والحار بالبارد والرطب باليابس واليابس بالرطب وتعديل أحدهما بالآخر من أبلغ أنواع العلاجات وحفظ الصحة ونظير هذا ما تقدم من أمره بالسنا والسنوت وهو العسل الذي فيه شيء من السمن يصلح به السنا ويعدله فصلوات الله وسلامه على من بعث بعمارة القلوب والأبدان وبمصالح الدنيا والآخرة
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الرمد بالسكون والدعة وترك الحركة والحمية مما يهيج الرمد
وقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم حما صهيبا من التمر وأنكر عليه أكله وهو أرمد وحما عليا من الرطب لما أصابه الرمد .
وذكر أبو نعيم في كتاب " الطب النبوي " : أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رمدت عين امرأة من نسائه لم يأتها حتى تبرأ عينها
[حقيقة الرمد ]
الرمد ورم حار يعرض في الطبقة الملتحمة من العين وهو بياضها الظاهر وسببه انصباب أحد الأخلاط الأربعة أو ريح حارة تكثر كميتها في الرأس والبدن فينبعث منها قسط إلى جوهر العين أو ضربة تصيب العين فترسل الطبيعة إليها من الدم والروح مقدارا كثيرا تروم بذلك شفاءها مما عرض لها ولأجل ذلك يرم العضو المضروب والقياس يوجب ضده .
واعلم أنه كما يرتفع من الأرض إلى الجو بخاران أحدهما : حار يابس والآخر حار رطب فينعقدان سحابا متراكما ويمنعان أبصارنا من إدراك السماء فكذلك يرتفع من قعر المعدة إلى منتهاها مثل ذلك فيمنعان النظر ويتولد عنهما علل شتى فإن قويت الطبيعة على ذلك ودفعته إلى الخياشيم أحدث الزكام وإن دفعته إلى اللهاة والمنخرين أحدث الخناق وإن دفعته إلى الجنب أحدث الشوصة وإن دفعته إلى الصدر أحدث النزلة وإن انحدر إلى القلب أحدث الخبطة وإن دفعته إلى العين أحدث رمدا وإن انحدر إلى الجوف أحدث السيلان وإن دفعته إلى منازل الدماغ أحدث النسيان وإن ترطبت أوعية الدماغ منه وامتلأت به عروقه أحدث النوم الشديد ولذلك كان النوم رطبا والسهر يابسا . وإن طلب البخار النفوذ من الرأس فلم يقدر عليه أعقبه الصداع والسهر وإن مال البخار إلى أحد شقي الرأس أعقبه الشقيقة وإن ملك قمة الرأس ووسط الهامة أعقبه داء البيضة وإن برد منه حجاب الدماغ أو سخن أو ترطب وهاجت منه أرياح أحدث العطاس وإن أهاج الرطوبة البلغمية فيه حتى غلب الحار الغريزي أحدث الإغماء والسكات وإن أهاج المرة السوداء حتى أظلم هواء الدماغ أحدث الوسواس وإن فاض ذلك إلى مجاري العصب أحدث الصرع الطبيعي وإن ترطبت مجامع عصب الرأس وفاض ذلك في مجاريه أعقبه الفالج وإن كان البخار من مرة صفراء ملتهبة محمية للدماغ أحدث البرسام فإن شركه الصدر في ذلك كان سرساما فافهم هذا الفصل
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الخدران الكلي الذي يجمد معه البدن
ذكر أبو عبيد في " غريب الحديث " من حديث أبي عثمان النهدي أن قوما مروا بشجرة فأكلوا منها فكأنما مرت بهم ريح فأجمدتهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم قرسوا الماء في الشنان وصبوا عليهم فيما بين الأذانين ثم قال أبو عبيد : قرسوا : يعني بردوا . وقول الناس قد قرس البرد إنما هو من هذا بالسين ليس بالصاد . والشنان الأسقية والقرب الخلقان يقال للسقاء شن وللقربة شنة . وإنما ذكر الشنان دون الجدد لأنها أشد تبريدا للماء . وقوله " بين الأذانين " يعني أذان الفجر والإقامة فسمى الإقامة أذانا انتهى كلامه .
قال بعض الأطباء وهذا العلاج من النبي صلى الله عليه وسلم من أفضل علاج هذا الداء إذا كان وقوعه بالحجاز وهي بلاد حارة يابسة والحار الغريزي ضعيف في بواطن سكانها وصب الماء البارد عليهم في الوقت المذكور - وهو أبرد أوقات اليوم - يوجب جمع الحار الغريزي المنتشر في البدن الحامل لجميع قواه فيقوي القوة الدافعة ويجتمع من أقطار البدن إلى باطنه الذي هو محل ذاك الداء ويستظهر بباقي القوى على دفع المرض المذكور فيدفعه بإذن الله عز وجل ولو أن بقراط أو جالينوس أو غيرهما وصف هذا الدواء لهذا الداء لخضعت له الأطباء وعجبوا من كمال معرفته
[ إذا مات الذباب في مائع لا ينجسه ]
هذا الحديث فيه أمران أمر فقهي وأمر طبي فأما الفقهي فهو دليل ظاهر الدلالة جدا على أن الذباب إذا مات في ماء أو مائع فإنه لا ينجسه وهذا قول جمهور العلماء ولا يعرف في السلف مخالف في ذلك . ووجه الاستدلال به أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بمقله وهو غمسه في الطعام ومعلوم أنه يموت من ذلك ولا سيما إذا كان الطعام حارا . فلو كان ينجسه لكان أمرا بإفساد الطعام وهو صلى الله عليه وسلم إنما أمر بإصلاحه ثم عدي هذا الحكم إلى كل ما لا نفس له سائلة كالنحلة والزنبور والعنكبوت وأشباه ذلك إذ الحكم يعم بعموم علته وينتفي لانتفاء سببه فلما كان سبب التنجيس هو الدم المحتقن في الحيوان بموته وكان ذلك مفقودا فيما لا دم له سائل انتفى الحكم بالتنجيس لانتفاء علته .
ثم قال من لم يحكم بنجاسة عظم الميتة إذا كان هذا ثابتا في الحيوان الكامل مع ما فيه من الرطوبات والفضلات وعدم الصلابة فثبوته في العظم الذي هو أبعد عن الرطوبات والفضلات واحتقان الدم أولى وهذا في غاية القوة فالمصير إليه أولى .
وأول من حفظ عنه في الإسلام أنه تكلم بهذه اللفظة فقال ما لا نفس له سائلة إبراهيم النخعي وعنه تلقاها الفقهاء - والنفس في اللغة يعبر بها عن الدم ومنه نفست المرأة - بفتح النون - إذا حاضت ونفست - بضمها - إذا ولدت .
[فائدة غمس الذباب ]
وأما المعنى الطبي فقال أبو عبيد : معنى امقلوه اغمسوه ليخرج الشفاء منه كما خرج الداء يقال للرجلين هما يتماقلان إذا تغاطا في الماء .
واعلم أن في الذباب عندهم قوة سمية يدل عليها الورم والحكة العارضة عن لسعه وهي بمنزلة السلاح فإذا سقط فيما يؤذيه اتقاه بسلاحه فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقابل تلك السمية بما أودعه الله سبحانه في جناحه الآخر من الشفاء فيغمس كله في الماء والطعام فيقابل المادة السمية المادة النافعة فيزول ضررها وهذا طب لا يهتدي إليه كبار الأطباء وأئمتهم بل هو خارج من مشكاة النبوة ومع هذا فالطبيب العالم العارف الموفق يخضع لهذا العلاج ويقر لمن جاء به بأنه أكمل الخلق على الإطلاق وأنه مؤيد بوحي إلهي خارج عن القوى البشرية . وقد ذكر غير واحد من الأطباء أن لسع الزنبور والعقرب إذا دلك موضعه بالذباب نفع منه نفعا بينا وسكنه وما ذاك إلا للمادة التي فيه من الشفاء وإذا دلك به الورم الذي يخرج في شعر العين المسمى شعرة بعد قطع رءوس الذباب أبرأه
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج البثرة
ذكر ابن السني في كتابه عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد خرج في أصبعي بثرة فقال " عندك ذريرة ؟ قلت : نعم . قال " ضعيها عليها " وقولي : اللهم مصغر الكبير ومكبر الصغير صغر ما بي .
الذريرة دواء هندي يتخذ من قصب الذريرة وهي حارة يابسة تنفع من أورام المعدة والكبد والاستسقاء وتقوي القلب لطيبها وفي " الصحيحين " عن عائشة أنها قالت طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي بذريرة في حجة الوداع للحل والإحرام .
والبثرة خراج صغير يكون عن مادة حارة تدفعها الطبيعة فتسترق مكانا من الجسد تخرج منه فهي محتاجة إلى ما ينضجها ويخرجها والذريرة أحد ما يفعل بها ذلك فإن فيها إنضاجا وإخراجا مع طيب رائحتها مع أن فيها تبريدا للنارية التي في تلك المادة وكذلك قال صاحب " القانون " : إنه لا أفضل لحرق النار من الذريرة بدهن الورد والخل
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الأورام والخرجات التي تبرأ بالبط والبزل
يذكر عن علي أنه قال دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل يعوده بظهره ورم فقالوا : يا رسول الله بهذه مدة . قال بطوا عنه قال علي : فما برحت حتى بطت والنبي صلى الله عليه وسلم شاهد
ويذكر عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر طبيبا أن يبط بطن رجل أجوى البطن فقيل يا رسول الله هل ينفع الطب ؟ قال الذي أنزل الداء أنزل الشفاء فيما شاء
الورم مادة في حجم العضو لفضل مادة غير طبيعية تنصب إليه ويوجد في أجناس الأمراض كلها والمواد التي تكون عنها من الأخلاط الأربعة والمائية والريح وإذا اجتمع الورم سمي خراجا وكل ورم حار يؤول أمره إلى أحد ثلاثة أشياء إما تحلل وإما جمع مدة وإما استحالة إلى الصلابة . فإن كانت القوة قوية استولت على مادة الورم وحللته وهي أصلح الحالات التي يؤول حال الورم إليها وإن كانت دون ذلك أنضجت المادة وأحالتها مدة بيضاء وفتحت لها مكانا أسالتها منه . وإن نقصت عن ذلك أحالت المادة مدة غير مستحكمة النضج وعجزت عن فتح مكان في العضو تدفعها منه فيخاف على العضو الفساد بطول لبثها فيه فيحتاج حينئذ إلى إعانة الطبيب بالبط أو غيره لإخراج تلك المادة الرديئة المفسدة للعضو .
وفي البط فائدتان إحداهما : إخراج المادة الرديئة المفسدة .
والثانية منع اجتماع مادة أخرى إليها تقويها .
وأما قوله في الحديث الثاني : إنه أمر طبيبا أن يبط بطن رجل أجوى البطن فالجوى يقال على معان منها : الماء المنتن الذي يكون في البطن يحدث عنه الاستسقاء .
وقد اختلف الأطباء في بزله لخروج هذه المادة فمنعته طائفة منهم لخطره وبعد السلامة معه وجوزته طائفة أخرى وقالت لا علاج له سواه وهذا عندهم إنما هو في الاستسقاء الزقي فإنه كما تقدم ثلاثة أنواع طبلي وهو الذي ينتفخ معه البطن بمادة ريحية إذا ضربت عليه سمع له صوت كصوت الطبل ولحمي وهو الذي يربو معه لحم جميع البدن بمادة بلغمية تفشو مع الدم في الأعضاء وهو أصعب من الأول وزقي وهو الذي يجتمع معه في البطن الأسفل مادة رديئة يسمع لها عند الحركة خضخضة كخضخضة الماء في الزق وهو أردأ أنواعه عند الأكثرين من الأطباء . وقالت طائفة أردأ أنواعه اللحمي لعموم الآفة به .
ومن جملة علاج الزقي إخراج ذلك بالبزل ويكون ذلك بمنزلة فصد العروق لإخراج الدم الفاسد لكنه خطر كما تقدم وإن ثبت هذا الحديث فهو دليل على جواز بزله والله أعلم
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في تغذية المريض بألطف ما اعتاده من الأغذية
في " الصحيحين " من حديث عروة عن عائشة أنها كانت إذا مات الميت من أهلها واجتمع لذلك النساء ثم تفرقن إلى أهلهن أمرت ببرمة من تلبينة فطبخت وصنعت ثريدا ثم صبت التلبينة عليه ثم قالت كلوا منها فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول التلبينة مجمة لفؤاد المريض تذهب ببعض الحزن
وفي " السنن " من حديث عائشة أيضا قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عليكم بالبغيض النافع التلبين قالت وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى أحد من أهله لم تزل البرمة على النار حتى ينتهي أحد طرفيه . يعني يبرأ أو يموت .
وعنها : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قيل له إن فلانا وجع لا يطعم الطعام قال عليكم بالتلبينة فحسوه إياها ويقول والذي نفسي بيده إنها تغسل بطن أحدكم كما تغسل إحداكن وجهها من الوسخ
[ التلبين وفوائده ]
التلبين هو الحساء الرقيق الذي هو في قوام اللبن ومنه اشتق اسمه قال الهروي سميت تلبينة لشبهها باللبن لبياضها ورقتها وهذا الغذاء هو النافع للعليل وهو الرقيق النضيح لا الغليظ النيء وإذا شئت أن تعرف فضل التلبينة فاعرف فضل ماء الشعير بل هي ماء الشعير لهم فإنها حساء متخذ من دقيق الشعير بنخالته والفرق بينها وبين ماء الشعير أنه يطبخ صحاحا والتلبينة تطبخ منه مطحونا وهي أنفع منه لخروج خاصية الشعير بالطحن وقد تقدم أن للعادات تأثيرا في الانتفاع بالأدوية والأغذية وكانت عادة القوم أن يتخذوا ماء الشعير منه مطحونا لا صحاحا وهو أكثر تغذية وأقوى فعلا وأعظم جلاء وإنما اتخذه أطباء المدن منه صحاحا ليكون أرق وألطف فلا يثقل على طبيعة المريض وهذا بحسب طبائع أهل المدن ورخاوتها وثقل ماء الشعير المطحون عليها . والمقصود أن ماء الشعير مطبوخا صحاحا ينفذ سريعا ويجلو جلاء ظاهرا ويغذي غذاء لطيفا . وإذا شرب حارا كان جلاؤه أقوى ونفوذه أسرع وإنماؤه للحرارة الغريزية أكثر وتلميسه لسطوح المعدة أوفق .
[ علة ذهاب التلبينة ببعض الحزن ]
وقوله صلى الله عليه وسلم فيها : مجمة لفؤاد المريض يروى بوجهين . بفتح الميم والجيم وبضم الميم وكسر الجيم والأول أشهر ومعناه أنها مريحة له أي تريحه وتسكنه من الإجمام وهو الراحة . وقوله " تذهب ببعض الحزن " هذا - والله أعلم - لأن الغم والحزن يبردان المزاج ويضعفان الحرارة الغريزية لميل الروح الحامل لها إلى جهة القلب الذي هو منشؤها وهذا الحساء يقوي الحرارة الغريزية بزيادته في مادتها فتزيل أكثر ما عرض له من الغم والحزن .
وقد يقال - وهو أقرب - إنها تذهب ببعض الحزن بخاصية فيها من جنس خواص الأغذية المفرحة فإن من الأغذية ما يفرح بالخاصية والله أعلم .
وقد يقال إن قوى الحزين تضعف باستيلاء اليبس على أعضائه وعلى معدته خاصة لتقليل الغذاء وهذا الحساء يرطبها ويقويها ويغذيها ويفعل مثل ذلك بفؤاد المريض لكن المريض كثيرا ما يجتمع في معدته خلط مراري أو بلغمي أو صديدي وهذا الحساء يجلو ذلك عن المعدة ويسروه ويحدره ويميعه ويعدل كيفيته ويكسر سورته فيريحها ولا سيما لمن عادته الاغتذاء بخبز الشعير وهي عادة أهل المدينة إذ ذاك وكان هو غالب قوتهم وكانت الحنطة عزيزة عندهم . والله أعلم
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج السحر
الذي سحرته اليهود به قد أنكر هذا طائفة من الناس وقالوا : لا يجوز هذا عليه وظنوه نقصا وعيبا وليس الأمر كما زعموا بل هو من جنس ما كان يعتريه صلى الله عليه وسلم من الأسقام والأوجاع وهو مرض من الأمراض وإصابته به كإصابته بالسم لا فرق بينهما وقد ثبت في " الصحيحين " عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إن كان ليخيل إليه أنه يأتي نساءه ولم يأتهن وذلك أشد ما يكون من السحر .
قال القاضي عياض : والسحر مرض من الأمراض وعارض من العلل يجوز عليه صلى الله عليه وسلم كأنواع الأمراض مما لا ينكر ولا يقدح في نبوته وأما كونه يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله فليس في هذا ما يدخل عليه داخلة في شيء من صدقه لقيام الدليل والإجماع على عصمته من هذا وإنما هذا فيما يجوز طروه عليه في أمر دنياه التي لم يبعث لسببها ولا فضل من أجلها وهو فيها عرضة للآفات كسائر البشر فغير بعيد أنه يخيل إليه من أمورها ما لا حقيقة له ثم ينجلي عنه كما كان .
[ علاج السحر ]
والمقصود ذكر هديه في علاج هذا المرض وقد روي عنه فيه نوعان
[ استخراج السحر وإبطاله ]
أحدهما - وهو أبلغهما - استخراجه وإبطاله كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه سأل ربه سبحانه في ذلك فدل عليه فاستخرجه من بئر فكان في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر فلما استخرجه ذهب ما به حتى كأنما أنشط من عقال فهذا من أبلغ ما يعالج به المطبوب وهذا بمنزلة إزالة المادة الخبيثة وقلعها من الجسد بالاستفراغ .
[ الاستفراغ في المحل الذي يصل إليه أذى السحر ]
والنوع الثاني : الاستفراغ في المحل الذي يصل إليه أذى السحر فإن للسحر تأثيرا في الطبيعة وهيجان أخلاطها وتشويش مزاجها فإذا ظهر أثره في عضو وأمكن استفراغ المادة الرديئة من ذلك العضو نفع جدا .
وقد ذكر أبو عبيد في كتاب " غريب الحديث " له بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم على رأسه بقرن حين طب قال أبو عبيد : معنى طب أي سحر .
وقد أشكل هذا على من قل علمه وقال ما للحجامة والسحر وما الرابطة بين هذا الداء وهذا الدواء ولو وجد هذا القائل أبقراط أو ابن سينا أو غيرهما قد
نص على هذا العلاج لتلقاه بالقبول والتسليم وقال قد نص عليه من لا يشك في معرفته وفضله .
فاعلم أن مادة السحر الذي أصيب به صلى الله عليه وسلم انتهت إلى رأسه إلى إحدى قواه التي فيه بحيث كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولم يفعله وهذا تصرف من الساحر في الطبيعة والمادة الدموية بحيث غلبت تلك المادة على البطن المقدم منه فغيرت مزاجه عن طبيعته الأصلية .
والسحر هو مركب من تأثيرات الأرواح الخبيثة وانفعال القوى الطبيعية عنها وهو أشد ما يكون من السحر ولا سيما في الموضع الذي انتهى السحر إليه واستعمال الحجامة على ذلك المكان الذي تضررت أفعاله بالسحر من أنفع المعالجة إذا استعملت على القانون الذي ينبغي .
قال أبقراط الأشياء التي ينبغي أن تستفرغ يجب أن تستفرغ من المواضع التي هي إليها أميل بالأشياء التي تصلح لاستفراغها .
وقالت طائفة من الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصيب بهذا الداء وكان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله ظن أن ذلك عن مادة دموية أو غيرها مالت إلى جهة الدماغ وغلبت على البطن المقدم منه فأزالت مزاجه عن الحالة الطبيعية له وكان استعمال الحجامة إذ ذاك من أبلغ الأدوية وأنفع المعالجة فاحتجم وكان ذلك قبل أن يوحى إليه أن ذلك من السحر فلما جاءه الوحي من الله تعالى وأخبره أنه قد سحر عدل إلى العلاج الحقيقي وهو استخراج السحر وإبطاله فسأل الله سبحانه فدله على مكانه فاستخرجه فقام كأنما أنشط من عقال وكان غاية هذا السحر فيه إنما هو في جسده وظاهر جوارحه لا على عقله وقلبه ولذلك لم يكن يعتقد صحة ما يخيل إليه من إتيان النساء بل يعلم أنه خيال لا حقيقة له ومثل هذا قد يحدث من بعض الأمراض والله أعلم .
فصل [ علاج السحر بالأذكار والآيات ]
ومن أنفع علاجات السحر الأدوية الإلهية بل هي أدويته النافعة بالذات فإنه من تأثيرات الأرواح الخبيثة السفلية ودفع تأثيرها يكون بما يعارضها ويقاومها من الأذكار والآيات والدعوات التي تبطل فعلها وتأثيرها وكلما كانت أقوى وأشد كانت أبلغ في النشرة وذلك بمنزلة التقاء جيشين مع كل واحد منهما عدته وسلاحه فأيهما غلب الآخر قهره وكان الحكم له فالقلب إذا كان ممتلئا من الله مغمورا بذكره وله من التوجهات والدعوات والأذكار والتعوذات ورد لا يخل به يطابق فيه قلبه لسانه كان هذا من أعظم الأسباب التي تمنع إصابة السحر له ومن أعظم العلاجات له بعد ما يصيبه . وعند السحرة أن سحرهم إنما يتم تأثيره في القلوب الضعيفة المنفعلة والنفوس الشهوانية التي هي معلقة بالسفليات ولهذا فإن غالب ما يؤثر في النساء والصبيان والجهال وأهل البوادي ومن ضعف حظه من الدين والتوكل والتوحيد ومن لا نصيب له من الأوراد الإلهية والدعوات والتعوذات النبوية .
وبالجملة فسلطان تأثيره في القلوب الضعيفة المنفعلة التي يكون ميلها إلى السفليات قالوا : والمسحور هو الذي يعين على نفسه فإنا نجد قلبه متعلقا بشيء كثير الالتفات إليه فيتسلط على قلبه بما فيه من الميل والالتفات والأرواح الخبيثة إنما تتسلط على أرواح تلقاها مستعدة لتسلطها عليها بميلها إلى ما يناسب تلك الأرواح الخبيثة وبفراغها من القوة الإلهية وعدم أخذها للعدة التي تحاربها بها فتجدها فارغة لا عدة معها وفيها ميل إلى ما يناسبها فتتسلط عليها ويتمكن تأثيرها فيها بالسحر وغيره والله أعلمباب الْإِثْمِدِ وَالْكُحْلِ مِنْ الرَّمَدِ
فِيهِ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ
الشرح:
قوله: (باب الإثمد والكحل من الرمد) أي بسب الرمد، والرمد بفتح الراء والميم: ورم حار يعرض في الطبقة الملتحمة من العين وهو بياضها الظاهر، وسببه انصباب أحد الأخلاط أو أبخرة تصعد من المعدة إلى الدماغ فإن اندفع إلى الخياشيم أحدث الزكام، أو إلى العين أحدث الرمد، أو إلى اللهاة والمنخرين أحدث الخنان بالخاء المعجمة والنون، أو إلى الصدر أحدث النزلة، أو إلى القلب أحدث الشوصة، وإن لم ينحدر وطلب نفاذا فلم يجد أحدث الصداع كما تقدم.
قوله: (فيه عن أم عطية) يشير إلى حديث أم عطية مرفوعا " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحد فوق ثلاث إلا على زوج " فإنها لا تكتحل، وقد تقدم في أبواب العدة، لكن لم أر في شيء من طرقه ذكر الإثمد، فكأنه ذكره لكون العرب غالبا إنما تكتحل به، وقد ورد التنصيص عليه في حديث ابن عباس رفعه " اكتحلوا بالإثمد، فإنه يجلو البصر وينبت الشعر " أخرجه الترمذي وحسنه واللفظ له، وابن ماجه وصححه ابن حبان، وأخرجه الترمذي من وجه آخر عن ابن عباس في " الشمائل " وفي الباب عن جابر عند الترمذي في " الشمائل " وابن ماجه وابن عدي من ثلاث طرق عن ابن المنكدر عنه بلفظ " عليكم بالإثمد، فإنه يجلو البصر وينبت الشعر " وعن علي عند ابن أبي عاصم والطبراني ولفظه " عليكم بالإثمد فإنه منبتة للشعر، مذهبة للقذى، مصفاة للبصر " وسنده حسن، وعن ابن عمر بنحوه عند الترمذي في " الشمائل " وعن أنس في " غريب مالك " للدار قطني بلفظ " كان يأمرنا بالإثمد " وعن سعيد بن هوذة عند أحمد بلفظ " اكتحلوا بالإثمد فإنه " الحديث، وهو عند أبي داود من حديثه بلفظ " إنه أمر بالإثمد المروح عند النوم " وعن أبي هريرة بلفظ " خير أكحالكم الإثمد فإنه " الحديث أخرجه البزار وفي سنده مقال، وعن أبي رافع " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكتحل بالإثمد " أخرجه البيهقي وفي سنده مقال، وعن عائشة " كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم إثمد يكحل به عند منامه في كل عين ثلاثا " أخرجه أبو الشيخ في كتاب " أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم " بسند ضعيف، والإثمد بكسر الهمزة والميم بينهما ثاء مثلثة ساكنة وحكي فيه ضم الهمزة: حجر معروف أسود يضرب إلى الحمرة يكون في بلاد الحجاز وأجوده يؤتى به من أصبهان، واختلف هل هو اسم الحجر الذي يتخذ منه الكحل أو هو نفس الكحل؟ ذكره ابن سيده وأشار إليه الجوهري، وفي هذه الأحاديث استحباب الاكتحال بالإثمد ووقع الأمر بالاكتحال وترا من حديث أبي هريرة في " سنن أبي داود " ووقع في بعض الأحاديث التي أشرت إليها كبقية الاكتحال، وحاصله ثلاثا في كل عين، فيكون الوتر في كل واحدة على حدة، أو اثنتين في كل عين وواحدة بينهما، أو في اليمين ثلاثا وفي اليسرى ثنتين فيكون الوتر بالنسبة لهما جميعا وأرجحها الأول والله أعلم.
الحديث:
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ قَالَ حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ نَافِعٍ عَنْ زَيْنَبَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ امْرَأَةً تُوُفِّيَ زَوْجُهَا فَاشْتَكَتْ عَيْنَهَا فَذَكَرُوهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرُوا لَهُ الْكُحْلَ وَأَنَّهُ يُخَافُ عَلَى عَيْنِهَا فَقَالَ لَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ تَمْكُثُ فِي بَيْتِهَا فِي شَرِّ أَحْلَاسِهَا أَوْ فِي أَحْلَاسِهَا فِي شَرِّ بَيْتِهَا فَإِذَا مَرَّ كَلْبٌ رَمَتْ بَعْرَةً فَهَلَّا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً
الشرح:
ذكر المصنف حديث أم سلمة من رواية زينب وهي بنتها عنها " أن امرأة توفي زوجها فاشتكت عينها، فذكروها للنبي صلى الله عليه وسلم وذكروا له الكحل وأنه يخاف على عينها " الحديث، وقد مرت مباحثه في أبواب الإحداد.
وأما قوله في آخره: " فلا، أربعة أشهر وعشرا " كذا للأكثر وعند الكشميهني " فهلا أربعة أشهر وعشرا "؟ وهي واضحة، وأما الاقتصار على حرف النهي فالمنفي مقدر كأنه قال: فلا تكتحل، ثم قال: تمكث أربعة أشهر وعشرا.

باب الْجُذَامِ
وَقَالَ عَفَّانُ حَدَّثَنَا سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَلَا هَامَةَ وَلَا صَفَرَ وَفِرَّ مِنْ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنْ الْأَسَدِ
الشرح:
قوله: (باب الجذام) بضم الجيم وتخفيف المعجمة، هو علة رديئة تحدث من انتشار المرة السوداء في البدن كله فتفسد مزاج الأعضاء، وربما أفسد في آخره إيصالها حتى يتأكل.
قال ابن سيده: سمي بذلك لتجذم الأصابع وتقطعها.
قوله: (وقال عفان) هو ابن مسلم الصفار.
وهو من شيوخ البخاري لكن أكثر ما يخرج عنه بواسطة، وهو من المعلقات التي لم يصلها في موضع آخر، وقد جزم أبو نعيم أنه أخرجه عنه بلا رواية، وعلى طريقة ابن الصلاح يكون موصولا.
وقد وصله أبو نعيم من طريق أبي داود الطيالسي وأبي قتيبة مسلم بن قتيبة كلاهما عن سليم بن حيان شيخ عفان فيه، وأخرجه أيضا من طريق عمرو بن مرزوق عن سليم لكن موقوفا ولم يستخرجه الإسماعيلي.
وقد وصله ابن خزيمة أيضا.
وسليم بفتح أوله وكسر ثانيه، وحيان بمهملة ثم تحتانية ثقيلة.
قوله: (لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر) كذا جمع الأربعة في هذه الرواية، ويأتي مثله سواء بعد عدة أبواب في " باب لا هامة " من طريق أبي صالح عن أبي هريرة، ويأتي بعد خمسة أبواب من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة مثله لكن بدون قوله: " ولا طيرة " وأعاده بعد أبواب كثيرة بزيادة قصة، وبعد عدة أبواب في " باب لا طيرة " من طريق عبيد الله بن عتبة عن أبي هريرة " لا طيرة " حسب، وفي " باب لا عدوى " من طريق سنان بن أبي سنان عن أبي هريرة بلفظ " لا عدوى " حسب، ولمسلم من طريق محمد بن سيرين عن أبي هريرة بلفظ " لا عدوى ولا هامة ولا طيرة".
وأخرج مسلم من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة مثل رواية أبي سلمة وزاد " ولا نوء " ويأتي في " باب لا عدوى " من حديث ابن عمر، ومن حديث أنس " لا عدوى ولا طيرة"، ولمسلم وابن حيان من طريق ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرا بلفظ " لا عدوى ولا صفر ولا غول " وأخرج ابن حبان من طريق سماك عن عكرمة عن ابن عباس مثل رواية سعيد بن ميناء وأبي صالح عن أبي هريرة وزاد فيه القصة التي في رواية أبي سلمة عن أبي هريرة، وهو في ابن ماجه باختصار.
فالحاصل من ذلك ستة أشياء: العدوى والطيرة والهامة والصفر والغول والنوء، والأربعة الأول قد أفرد البخاري لكل واحد منها ترجمة فنذكر شرحها فيه وأما الغول فقال الجمهور: كانت العرب تزعم أن الغيلان في الفلوات، وهي جنس من الشياطين تتراءى للناس وتتغول لهم تغولا أي تتلون تلونا فتضلهم عن الطريق فتهلكهم، وقد كثر في كلامهم " غالته الغول " أي أهلكته أو أضلته، فأبطل صلى الله عليه وسلم ذلك.
وقيل: ليس المراد إبطال وجود الغيلان، وإنما معناه إبطال ما كانت العرب تزعمه من تلون الغول بالصور المختلفة، قالوا: والمعني لا يستطيع الغول أن يضل أحدا.
ويؤيده حديث " إذا تغولت الغيلان فنادوا بالأذان " أي ادفعوا شرها بذكر الله.
وفي حديث أبي أيوب عند قوله: " كانت لي سهوة فيها تمر، فكانت الغول تجيء فتأكل منه " الحديث، وأما النوء فقد تقدم القول فيه في كتاب الاستسقاء، وكانوا يقولون " مطرنا بنوء كذا " فأبطل صلى الله عليه وسلم ذلك بأن المطر إنما يقع بإذن الله لا بفعل الكواكب، وإن كانت العادة جرت بوقوع المطر في ذلك الوقت، لكن بإرادة الله تعالى وتقديره، لا صنع للكواكب في ذلك، والله أعلم.
قوله (وفر من المجذوم كما تفر من الأسد) لم أقف عليه من حديث أبي هريرة إلا من هذا الوجه، ومن وجه آخر عند أبي نعيم في الطب، لكنه معلول.
وأخرج ابن خزيمة في " كتاب التوكل " له شاهدا من حديث عائشة ولفظه " لا عدوى، وإذا رأيت المجذوم ففر منه كما تفر من الأسد " وأخرج مسلم من حديث عمرو بن الشريد الثقفي عن أبيه قال: " كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا قد بايعناك، فارجع " قال عياض: اختلفت الآثار في المجذوم، فجاء ما تقدم عن جابر " أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل مع مجذوم وقال: ثقة بالله وتوكلا عليه " قال فذهب عمر وجماعة من السلف إلى الأكل معه ورأوا أن الأمر باجتنابه منسوخ.
وممن قال بذلك عيسى بن دينار من المالكية، قال: والصحيح الذي عليه الأكثر ويتعين المصير إليه أن لا نسخ، بل يجب الجمع بين الحديثين وحمل الأمر باجتنابه والفرار منه على الاستحباب والاحتياط، والأكل معه على بيان الجواز ا ه.
هكذا اقتصر القاضي ومن تبعه على حكاية هذين القولين، وحكى غيره قولا ثالثا وهو الترجيح، وقد سلكه فريقان: أحدهما سلك ترجيح الأخبار الدالة على نفي العدوى وتزييف الأخبار الدالة على عكس ذلك مثل حديث الباب فأعلوه بالشذوذ، وبأن عائشة أنكرت ذلك، فأخرج الطبري عنها " أن امرأة سألتها عنه فقالت: ما قال ذلك، ولكنه قال: لا عدوى.
وقال: فمن أعدى الأول؟ قالت: وكان لي مولى به هذا الداء فكان يأكل في صحافي ويشرب في أقداحي وينام على فراشي " وبأن أبا هريرة تردد في هذا الحكم كما سيأتي بيانه فيؤخذ الحكم من رواية غيره، وبأن الأخبار الواردة من رواية غيره في نفي العدوى كثيرة شهيرة بخلاف الأخبار المرخصة في ذلك، ومثل حديث " لا تديموا النظر إلى المجذومين " وقد أخرجه ابن ماجه وسنده ضعيف، ومثل حديث عبد الله بن أبي أوفى رفعه " كلم المجذوم وبينك وبينه قيد رمحين " أخرجه أبو نعيم في الطب بسند واه، ومثل ما أخرجه الطبري من طريق معمر عن الزهري " أن عمر قال لمعيقيب: اجلس مني قيد رمح " ومن طريق خارجة بن زيد كان عمر يقول نحوه، وهما أثران منقطعان، وأما حديث الشريد الذي أخرجه مسلم فليس صريحا في أن ذلك بسبب الجذام، والجواب عن ذلك أن طريق الترجيح لا يصار إليها إلا مع تعذر الجمع، وهو ممكن، فهو أولى.
الفريق الثاني سلكوا في الترجيح عكس هذا المسلك، فردوا حديث لا عدوى بأن أبا هريرة رجع عنه إما لشكه فيه وإما لثبوت عكسه عنده كما سيأتي إيضاحه في " باب لا عدوى " قالوا: والأخبار الدالة على الاجتناب أكثر مخارج وأكثر طوقا فالمصير إليها أولى، قالوا: وأما حديث جابر " أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد مجذوم فوضعها في القصعة وقال: كل ثقة بالله وتوكلا عليه " ففيه نظر، وقد أخرجه الترمذي وبين الاختلاف فيه على راويه ورجح وقفه على عمر، وعلى تقدير ثبوته فليس فيه أنه صلى الله عليه وسلم أكل معه، وإنما فيه أنه وضع يده في القصعة، قاله الكلاباذي في " معاني الأخبار".
والجواب أن طريق الجمع أولى كما تقدم، وأيضا فحديث لا عدوى ثبت من غير طريق أبي هريرة فصح عن عائشة وابن عمر وسعد بن أبي وقاص وجابر وغيرهم، فلا معنى لدعوى كونه معلولا، والله أعلم.
وفي طريق الجمع مسالك أخرى: أحدها: نفي العدوى جملة وحمل الأمر بالفرار من المجذوم على رعاية خاطر المجذوم، لأنه إذا رأى الصحيح البدن السليم من الآفة تعظم مصيبته وتزداد حسرته، ونحوه حديث " لا تديموا النظر إلى المجذومين " فإنه محمول على هذا المعنى.
ثانيها: حمل الخطاب بالنفي والإثبات على حالتين مختلفتين، فحيث جاء " لا عدوى " كان المخاطب بذلك من قوي يقينه وصح توكله بحيث يستطيع أن يدفع عن نفسه اعتقاد العدوى، كما يستطيع أن يدفع التطير الذي يقع في نفس كل أحد، لكن القوي اليقين لا يتأثر به، وهذا مثل ما تدفع قوة الطبيعة العلة فتبطلها، وعلى هذا يحمل حديث جابر في أكل المجذوم من القصعة وسائر ما ورد من جنسه، وحيث جاء " فر من المجذوم " كان المخاطب بذلك من ضعف يقينه، ولم يتمكن من تمام التوكل فلا يكون له قوة على دفع اعتقاد العدوى، فأريد بذلك سد باب اعتقاد العدوى عنه بأن لا يباشر ما يكون سببا لإثباتها.
وقريب من هذا كراهيته صلى الله عليه وسلم الكي مع إذنه فيه كما تقدم تقريره، وقد فعل هو صلى الله عليه وسلم كلا من الأمرين ليتأسى به كل من الطائفتين.
ثالث المسالك: قال القاضي أبو بكر الباقلاني: إثبات العدوى في الجذام ونحوه مخصوص من عموم نفي العدوى، قال: فيكون معني قوله: " لا عدوى " أي إلا من الجذام والبرص والجرب مثلا، قال: فكأنه قال لا يعدي شيء شيئا إلا ما تقدم تبييني له أن فيه العدوى.
وقد حكى ذلك ابن بطال.
رابعها: أن الأمر بالفرار من المجذوم ليس من باب العدوى في شيء، بل هو لأمر طبيعي وهو انتقال الداء من جسد لجسد بواسطة الملامسة والمخالطة وشم الرائحة، ولذلك يقع في كثير من الأمراض في العادة انتقال الداء من المريض إلى الصحيح بكثرة المخالطة، وهذه طريقة ابن قتيبة فقال: المجذوم تشتد رائحته حتى يسقم من أطال مجالسته ومحادثته ومضاجعته، وكذا يقع كثيرا بالمرأة من الرجل وعكسه، وينزع الولد إليه، ولهذا يأمر الأطباء بترك مخالطة المجذوم لا على طريق العدوى بل على طريق التأثر بالرائحة لأنها تسقم من واظب اشتمامها، قال: ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يورد ممرض على مصح " لأن الجرب الرطب قد يكون بالبعير، فإذا خالط الإبل أو حككها وأوى إلى مباركها وصل إليها بالماء الذي يسيل منه، وكذا بالنظر نحو ما به.
قال: وأما قوله: " لا عدوى " فله معنى آخر، وهو أن يقع المرض بمكان كالطاعون فيفر منه مخافة أن يصيبه، لأن فيه نوعا من الفرار من قدر الله.
المسلك الخامس: أن المراد ينفي العدوى أن شيئا لا يعدي بطبعه نفيا لما كانت الجاهلية تعتقده أن الأمراض تعدي بطبعها من غير إضافة إلى الله، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم اعتقادهم ذلك وأكل مع المجذوم ليبين لهم أن الله هو الذي يمرض ويشفي، ونهاهم عن الدنو منه ليبين لهم أن هذا من الأسباب التي أجرى الله العادة بأنها تفضي إلى مسبباتها، ففي نهيه إثبات الأسباب، وفي فعله إشارة إلى أنها لا تستقل، بل الله هو الذي إن شاء سلبها قواها فلا تؤثر شيئا، وإن شاء أبقاها فأثرت، ويحتمل أيضا أن يكون أكله صلى الله عليه وسلم مع المجذوم أنه كان به أمر يسير لا يعدي مثله في العادة، إذا ليس الجذمي كلهم سواء، ولا تحصل العدوى من جميعهم بل لا يحصل منه في العادة عدوى أصلا كالذي أصابه شيء من ذلك ووقف فلم يعد بقية جسمه فلا يعدي.
وعلى الاحتمال الأول جرى أكثر الشافعية، قال البيهقي بعد أن أورد قول الشافعي ما نصه: الجذام والبرص يزعم أهل العلم بالطب والتجارب أنه يعدي الزوج كثيرا، وهو داء مانع للجماع لا تكاد نفس أحد تطيب بمجامعة من هو به ولا نفس امرأة أن يجامعها من هو به، وأما الولد فبين أنه إذا كان من ولده أجذم أو أبرص أنه قلما يسلم، وإن سلم أدرك نسله.
قال البيهقي: وأما ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا عدوى " فهو على الوجه الذي كانوا يعتقدونه في الجاهلية من إضافة الفعل إلى غير الله تعالى.
وقد يجعل الله بمشيئته مخالطة الصحيح من به شيء من هذه العيوب سببا لحدوث ذلك، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: " فر من المجذوم فرارك من الأسد " وقال: " لا يورد ممرض على مصح " وقال في الطاعون " من سمع به بأرض فلا يقدم عليه " وكل ذلك بتقدير الله تعالى.
وتبعه على ذلك ابن الصلاح في الجمع بين الحديثين ومن بعده وطائفة ممن قبله.
المسلك السادس: العمل بنفي العدوى أصلا ورأسا، وحمل الأمر بالمجانبة على حسم المادة وسد الذريعة لئلا يحدث للمخالط شيء من ذلك فيظن أنه بسبب المخالطة فيثبت العدوى التي نفاها الشارع، وإلى هذا القول ذهب أبو عبيد وتبعه جماعة فقال أبو عبيد: ليس في قوله: " لا يورد ممرض على مصح " إثبات العدوى، بل لأن الصحاح لو مرضت بتقدير الله تعالى ربما وقع في نفس صاحبها أن ذلك من العدوى فيفتتن ويتشكك في ذلك، فأمر باجتنابه.
قال: وكان بعض الناس يذهب إلى أن الأمر بالاجتناب إنما هو للمخافة على الصحيح من ذوات العاهة، قال: وهذا شر ما حمل عليه الحديث، لأن فيه إثبات العدوى التي نفاها الشارع، ولكن وجه الحديث عندي ما ذكرته.
وأطنب ابن خزيمة في هذا في " كتاب التوكل " فإنه أورد حديث " لا عدوى " عن عدة من الصحابة وحديث " لا يورد ممرض على مصح " من حديث أبي هريرة وترجم للأول " التوكل على الله في نفي العدوى " وللثاني " ذكر خبر غلط في معناه بعض العلماء، وأثبت العدوى التي نفاها النبي صلى الله عليه وسلم " ثم ترجم " الدليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد إثبات العدوى بهذا القول " فساق حديث أبي هريرة " لا عدوى، فقال أعرابي: فما بال الإبل يخالطها الأجرب فتجرب؟ قال: فمن أعدى الأول " ثم ذكر طرقه عن أبي هريرة، ثم أخرجه من حديث ابن مسعود، ثم ترجم " ذكر خبر روي في الأمر بالفرار من المجذوم قد يخطر لبعض الناس أن فيه إثبات العدوى وليس كذلك " وساق حديث " فر من المجذوم فرارك من الأسد " من حديث أبي هريرة ومن حديث عائشة، وحديث عمرو بن الشريد عن أبيه في أمر المجذوم بالرجوع، وحديث ابن عباس " لا تديموا النظر إلى المجذومين " ثم قال: إنما أمرهم صلى الله عليه وسلم بالفرار من المجذوم كما نهاهم أن يورد الممرض على المصح شفقة عليهم، وخشية أن يصيب بعض من يخالطه المجذوم الجذام، والصحيح من الماشية الجرب فيسبق إلى بعض المسلمين أن ذلك من العدوى فيثبت العدوى التي نفاها صلى الله عليه وسلم فأمرهم بتجنب ذلك شفقة منه ورحمة ليسلموا من التصديق بإثبات العدوى، وبين لهم أنه لا يعدي شيء شيئا.
قال: ويؤيد هذا أكله صلى الله عليه وسلم مع المجذوم ثقة بالله وتوكلا عليه، وساق حديث جابر في ذلك ثم قال: وأما نهيه عن إدامة النظر إلى المجذوم فيحتمل أن يكون لأن المجذوم يغتم ويكره إدمان الصحيح نظره إليه، لأنه قل من يكون به داء إلا وهو يكره أن يطلع عليه ا ه.

وهذا الذي ذكره احتمالا سبقه إليه مالك، فإنه سئل عن هذا الحديث فقال: ما سمعت فيه بكراهية، وما أدري ما جاء من ذلك إلا مخافة أن يقع في نفس المؤمن شيء.
وقال الطبري: الصواب عندنا القول بما صح به الخبر، وأن لا عدوى، وأنه لا يصيب نفسا إلا ما كتب عليها.
وأما دنو عليل من صحيح فغير موجب انتقال العلة للصحيح، إلا أنه لا ينبغي لذي صحة الدنو من صاحب العاهة التي يكرهها الناس، لا لتحريم ذلك، بل لخشية أن يظن الصحيح أنه لو نزل به ذلك الداء أنه من جهة دنوه من العليل فيقع فيما أبطله النبي صلى الله عليه وسلم من العدوى.
قال: وليس في أمره بالفرار من المجذوم معارضة لأكله معه، لأنه كان يأمر بالأمر على سبيل الإرشاد أحيانا وعلى سبيل الإباحة أخرى، وإن كان أكثر الأوامر على الإلزام، إنما كان يفعل ما نهى عنه أحيانا لبيان أن ذلك ليس حراما.
وقد سلك الطحاوي في " معاني الآثار " مسلك ابن خزيمة فيما ذكره فأورد حديث " لا يورد ممرض على مصح " ثم قال: معناه أن المصح قد يصيبه ذلك المرض فيقول الذي أورده لو أني ما أوردته عليه لم يصبه من هذا المرض شيء، والواقع أنه لو لم يورده لأصابه لكون الله تعالى قدره، فنهى عن إيراده لهذه العلة التي لا يؤمن غالبا من وقوعها في قلب المرء ثم ساق الأحاديث في ذلك فأطنب، وجمع بينها بنحو ما جمع به ابن خزيمة.
ولذلك قال القرطبي في " المفهم ": إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إيراد الممرض على المصح مخافة الوقوع فيما وقع فيه أهل الجاهلية من اعتقاد العدوى، أو مخافة تشويش النفوس وتأثير الأوهام، وهو نحو قوله: " فر من المجذوم فرارك من الأسد " وإن كنا نعتقد أن الجذام لا يعدي، لكنا نجد في أنفسنا نفرة وكراهية لمخالطته، حتى لو أكره إنسان نفسه على القرب منه وعلى مجالسته لتأذت نفسه بذلك، فحينئذ فالأولى للمؤمن أن لا يتعرض إلى ما يحتاج فيه إلى مجاهدة، فيجتنب طرق الأوهام، ويباعد أسباب الآلام، مع أنه يعتقد أنه لا ينحي حذر من قدر، والله أعلم.
قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: الأمر بالفرار من الأسد ليس للوجوب، بل للشفقة، لأنه صلى الله عليه وسلم كان ينهى أمته عن كل ما فيه ضرر بأي وجه كان، ويدلهم على كل ما فيه خير.
وقد ذكر بعض أهل الطب أن الروائح تحدث في الأبدان خللا فكان هذا وجه الأمر بالمجانبة، وقد أكل هو مع المجذوم، فلو كان الأمر بمجانبته على الوجوب لما فعله.
قال: ويمكن الجمع بين فعله وقوله بأن القول هو المشروع من أجل ضعف المخاطبين، وفعله حقيقة الإيمان، فمن فعل الأول أصاب السنة وهي أثر الحكمة، ومن فعل الثاني كان أقوى يقينا لأن الأشياء كلها لا تأثير لها إلا بمقتضى إرادة الله تعالى وتقديره، كما قال تعالى: (وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله) فمن كان قوي اليقين فله أن يتابعه صلى الله عليه وسلم في فعله ولا يضره شيء، ومن وجد في نفسه ضعفا فليتبع أمره في الفرار لئلا يدخل بفعله في إلقاء نفسه إلى التهلكة.
فالحاصل أن الأمور التي يتوقع منها الضرر وقد أباحت الحكمة الربانية الحذر منها فلا ينبغي للضعفاء أن يقربوها وأما أصحاب الصدق واليقين فهم في ذلك بالخيار.
قال: وفي الحديث أن الحكم للأكثر لأن الغالب من الناس هو الضعف، فجاء الأمر بالفرار بحسب ذلك.
واستدل بالأمر بالفرار من المجذوم لإثبات الخيار للزوجين في فسخ النكاح إذا وجده أحدهما بالآخر، وهو قول جمهور العلماء.
وأجاب فيه من لم يقل بالفسخ بأنه لو أخذ بعمومه لثبت الفسخ إذا حدث الجذام ولا قائل به، ورد بأن الخلاف ثابت، بل هو الراجح عند الشافعية، وقد تقدم في النكاح الإلمام بشيء من هذا.
واختلف في أمة الأجذم: هل يجوز لها أن تمنع نفسها من استمتاعه إذا أرادها؟ واختلف العلماء في المجذومين إذا كثروا هل يمنعون من المساجد والمجامع؟ وهل يتخذ لهم مكان منفرد عن الأصحاء؟ ولم يختلفوا في النادر أنه لا يمنع ولا في شهود الجمعة.

باب الْمَنُّ شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ
الشرح:
قوله: (باب المن شفاء للعين) كذا للاكثر.
وفي رواية الاصيلي " شفاء من العين " وعليها شرح ابن بطال، ويأتي توجيهها.
وفي هذه الترجمة إشارة إلى ترجيح القول الصائر إلى أن المراد بالمن في حديث الباب الصنف المخصوص من المأكول، لا المصدر الذي بمعني الامتنان، وإنما أطلق على المن شفاء لان الخبر ورد أن الكمأة منه وفيها شفاء فإذا ثبت الوصف للفرع كان ثبوته للاصل أولى.
الحديث:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ سَمِعْتُ عَمْرُو بْنَ حُرَيْثٍ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ الْكَمْأَةُ مِنْ الْمَنِّ وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ قَالَ شُعْبَةُ وَأَخْبَرَنِي الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ عَنْ الْحَسَنِ الْعُرَنِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ شُعْبَةُ لَمَّا حَدَّثَنِي بِهِ الْحَكَمُ لَمْ أُنْكِرْهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْمَلِكِ
الشرح:
قوله: (عن عبد الملك) هو ابن عمير، وصرح به أحمد في روايته عن محمد بن جعفر غندر، وعمرو بن حريث هو المخزومي له صحبة.
قوله: (سمعت سعيد بن زيد) أي ابن عمرو بن نفيل العدوي أحد العشرة، وعمر بن الخطاب بن نفيل ابن عم أبيه.
كذا قال عبد الملك بن عمير ومن تابعه، وخالفهم عطاء بن السائب من رواية عبد الوارث عنه فقال: " عن عمرو بن حريث عن أبيه " أخرجه مسدد في مسنده وابن السكن في الصحابة والدار قطني في " الافراد " وقال في " العلل"، الصواب رواية عبد الملك.
وقال ابن السكن أظن عبد الوارث أخطأ فيه.
وقيل: كان سعيد بن زيد تزوج أم عمرو بن حريث فكأنه قال: " حدثني أبي " وأراد زوج أمه مجازا فظنه الراوي أباه حقيقة.
قوله: (الكمأة) بفتح الكاف وسكون الميم بعدها همزة مفتوحة، قال الخطابي: وفي العامة من لا يهمزه، واحدة الكمء بفتح ثم سكون ثم همزة مثل تمرة وتمر، وعكس ابن الاعرابي فقال: الكمأة الجمع والكمء على غير قياس، قال: ولم يقع في كلامهم نظير هذا سوى خبأة وخبء.
وقيل: الكمأة قد تطلق على الواحد وعلى الجمع، وقد جمعوها على أكمؤ، قال الشاعر: ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا والعساقل بمهملتين وقاف ولام الشراب، وكأنه أشار إلى أن الاكمؤ محل وجدانها الفلوات.
والكمأة نبات لا ورق لها ولا ساق، توجد في الارض من غير أن تزرع.
قيل: سميت بذلك لاستتارها، يقال كمأ الشهادة إذا كتمها.
ومادة الكمأة من جوهر أرضي بخاري يحتقن نحو سطح الارض ببرد الشتاء وينميه مطر الربيع فيتولد ويندفع متجسدا، ولذلك كان بعض العرب يسميها جدري الارض تشبيها لها بالجدري مادة وصورة، لان مادته رطوبة دموية تندفع غاليا عند الترعرع وفي ابتداء استيلاء الحرارة ونماء القوة ومشابهتها له في الصورة ظاهر.
وأخرج الترمذي من حديث أبي هريرة " أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: الكمأة جدري الارض، فقال النبي صلى الله عليه وسلم الكمأة من المن " الحديث.
وللطبري من طريق ابن المنكدر عن جابر قال: " كثرت الكمأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فامتنع قوم من أكلها وقالوا: هي جدري الارض، فبلغه ذلك فقال: إن الكمأة ليست من جدري الارض، ألا إن الكمأة من المن " والعرب تسمي الكمأة أيضا بنات الرعد لانها تكثر بكثرته ثم تنفطر عنها الارض.
وهي كثيرة بأرض العرب، وتوجد بالشام ومصر، فأجودها ما كانت أرضه رملة قليلة الماء، ومنها صنف قتال يضرب لونه إلى الحمرة.
وهي باردة رطبة في الثانية رديئة للمعدة بطيئة الهضم، وإدمان أكلها يورث القولنج والسكتة والفالج وعسر البول، والرطب منها أقل ضررا من اليابس، وإذا دفنت في الطين الرطب ثم سلقت بالماء والملح والسعتر وأكلت بالزيت والتوابل الحارة قل ضررها، ومع ذلك ففيها جوهر مائي لطيف بدليل خفتها، فلذلك كان ماؤها شفاء للعين.
قوله: (من المن) قيل في المراد بالمن ثلاثة أقوال: أحدها: أن المراد أنها من المن الذي أنزل على بني إسرائيل، وهو الطل الذي يسقط على الشجر فيجمع ويؤكل حلوا، ومنه الترنجبين فكأنه شبه به الكمأة بجامع ما بينهما من وجود كل منهما عفوا بغير علاج.
قلت: وقد تقدم بيان ذلك واضحا في تفسير سورة البقرة، وذكرت من زاد في متن هذا الحديث " الكمأة من المن الذي أنزل على بني إسرائيل".
والثاني: أن المعنى أنها من المن الذي امتن الله به على عباده عفوا بغير علاج، قاله أبو عبيد وجماعة.
وقال الخطابي: ليس المراد أنها نوع من المن الذي أنزل على بني إسرائيل، فإن الذي أنزل على بني إسرائيل كان كالترنجبين الذي يسقط على الشجر، وإنما المعنى أن الكمأة شيء ينبت من غير تكلف ببذر ولا سقي، فهو من قبيل المن الذي كان ينزل على بني إسرائيل فيقع على الشجر فيتناولونه.
ثم أشار إلى أنه يحتمل أن يكون الذي أنزل على بني إسرائيل كان أنواعا، منها ما يسقط على الشجر، ومنها ما يخرج من الارض فتكون الكمأة منه، وهذا هو القول الثالث وبه جزم الموفق عبد اللطيف البغدادي ومن تبعه فقالوا: إن المن الذي أنزل على بني إسرائيل ليس هو ما يسقط على الشجر فقط بل كان أنواعا من الله عليهم بها من النبات الذي يوجد عفوا، ومن الطير التي تسقط عليهم بغير اصطياد، ومن الطل الذي يسقط على الشجر.
والمن مصدر بمعني المفعول أي ممنون به، فلما لم يكن للعبد فيه شائبة كسب كان منا محضا، وإن كانت جميع نعم الله تعالى على عبيده منا منه عليهم، لكن خص هذا باسم المن لكونه لا صنع فيه لاحد، فجعل سبحانه وتعالى قوتهم في التيه الكمأة وهي تقوم مقام الخبز، وأدمهم السلوى وهي تقوم مقام اللحم، وحلواهم الطل الذي ينزل على الشجر، فكمل بذلك عيشهم.
ويشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم "من المن " فأشار إلى أنها فرد من أفراده، فالترنجبين كذلك فرد من أفراد المن، وإن غلب استعمال المن عليه عرفا ا ه.
ولا يعكر على هذا قولهم: (لن نصبر على طعام واحد) لان المراد بالوحدة دوام الاشياء المذكورة من غير تبدل وذلك يصدق على ما إذا كان المطعوم أصنافا لكنها لا تتبدل أعيانها.
قوله: (وماؤها شفاء للعين) كذا للاكثر وكذا عند مسلم.
وفي رواية المستملي " من العين " أي شفاء من داء العين، قال الخطابي: إنما اختصت الكمأة بهذه الفضيلة لانها من الحلال المحض الذي ليس في اكتسابه شبهة، ويستنبط منه أن استعمال الحلال المحض يجلو البصر، والعكس بالعكس.
قال ابن الجوزي: في المراد بكونها شفاء للعين قولان: أحدهما: أنه ماؤها حقيقة، إلا أن أصحاب هذا القول اتفقوا على أنه لا يستعمل صرفا في العين، لكن اختلفوا كيف يصنع به على رأيين: أحدهما: أنه يخلط في الادوية التي يكتحل بها حكاه أبو عبيد، قال: ويصدق هذا الذي حكاه أبو عبيد أن بعض الاطباء قالوا: أكل الكمأة يجلو البصر، ثانيهما: أن تؤخذ فتشق وتوضع على الجمر حتى يغلي ماؤها، ثم يؤخذ الميل فيجعل في ذلك الشق وهو فاتر فيكتحل بمائها، لان النار تلطفه وتذهب فضلاته الرديئة ويبقى النافع منه، ولا يجعل الميل في مائها وهي باردة يابسة فلا ينجع، وقد حكى إبراهيم الحربي عن صالح وعبد الله ابني أحمد بن حنبل أنهما اشتكت أعينهما فأخذا كمأة وعصراها واكتحلا بمائها فهاجت أعينهما ورمدا.
قال ابن الجوزي: وحكى شيخنا أبو بكر بن عبد الباقي أن بعض الناس عصر ماء كمأة فاكتحل به فذهبت عينه.
والقول الثاني أن المراد ماؤها الذي تنبت به، فإنه أول مطر يقع في الارض فتربى به الاكحال حكاه ابن الجوزي عن أبي بكر بن عبد الباقي أيضا، فتكون الاضافة إضافة الكل لا إضافة جزء.
قال ابن القيم: وهذا أضعف الوجوه.
قلت: وفيما ادعاه ابن الجوزي من الاتفاق على أنها لا تستعمل صرفا نظر، فقد حكى عياض عن بعض أهل الطب في التداوي بماء الكمأة تفصيلا، وهو إن كان لتبريد ما يكون بالعين من الحرارة فتستعمل مفردة، وإن كان لغير ذلك فتستعمل مركبة، وبهذا جزم ابن العربي فقال: الصحيح أنه ينفع بصورته في حال، وبإضافته في أخرى، وقد جرب ذلك فوجد صحيحا.
نعم جزم الخطابي بما قال ابن الجوزي فقال: تربى بها التوتياء وغيرها من الاكحال، قال: ولا تستعمل صرفا فإن ذلك يؤذي العين.
وقال الغافقي في " المفردات ": ماء الكمأة أصلح الادوية للعين إذا عجن به الاثمد واكتحل به، فإنه يقوي الجفن، ويزيد الروح الباصر حدة وقوة، ويدفع عنها النوازل.
وقال النووي: الصواب أن ماءها شفاء للعين مطلقا فيعصر ماؤها ويجعل في العين منه، قال: وقد رأيت أنا وغيري في زماننا من كان عمي وذهب بصره حقيقة فكحل عينه بماء الكمأة مجردا فشفي وعاد إليه بصره، وهو الشيخ العدل الامين الكمال بن عبد الدمشقي صاحب صلاح ورواية في الحديث، وكان استعماله لماء الكمأة اعتقادا في الحديث وتبركا به







التوقيع :

رد مع اقتباس
قديم 02-05-10, 10:47 PM   رقم المشاركة : 2
أبونو
مشرف سابق
الملف الشخصي






 
الحالة
أبونو غير متواجد حالياً

 


 

رد: الطب النبوي

جزاك الله خير أختي شروق الفجر على هالمنقول
الوافي والشيق عن الطب النبوي ...







رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 09:55 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
تعريب :عاصمة الربيع

تصميم وتطوير سفن ستارز لخدمات الاستضافة والتصميم