الله سبحانه وتعالى بفضله خلق الناس أحرارا، ولكن هذه الحرية لا تعني بحال من الأحوال أن يخرج الإنسان من قيود الأخلاق ومن قيود الدين، وأن ينطلق في حياته كما تشتهي نفسه، وكما يريد شيطانه، وكما تدعوه إليه شهواته فإن ذلك مما يؤدي إلى الدمار، ويؤدي إلى عدوان الناس بعضهم على بعض.
لا ريب أن الإسلام هو الذي كفل الحريات وقد جاء بالحرية، وقد قال عمر رضي الله تعالى عنه في مشهد من الناس كلمته المشهورة: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أماتهم أحرارا)، وهي كلمة ذات مغزى بعيد، فإنها تدل على أن الإسلام جاء ليحرر الرقاب، وجاء ليخلص هذه النفوس من أسر بعضها لبعض، وجاء الإسلام ليرفع من شأن هذا الإنسان وليبوئه مبوأ الكرامة كما يقول سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (الإسراء:70) ويبين سبحانه أن منافع الكون مخلوقة لهذا الإنسان، فهو تعالى يقول (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً)(البقرة: من الآية29)، ويقول (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ)(الجاثـية: من الآية13)، فيد الإنسان يد حرة في الانتفاع بهذه المنافع التي لا تكون على حساب الآخر، ولا تكون على حساب الفضيلة، ولا تكون على حساب العقيدة والأخلاق.
نعم إن الإسلام جاء ليرفع من قدر هذا الإنسان، ولكن لا تعني حرية الإنسان أن يعيش عيشة البهائم العجماء أو أن يعيش عيشة السبع الفتاك الذي لا يبالي بالآخرين، فعندما تطلق الحرية بدون ضوابط تؤدي هذه الحرية إلى عدوان الناس بعضهم على بعض، وانتهاك بعضهم لحرم بعض، وهذا الذي وقع فعلاً بسبب خروج الإنسان من قيود الشريعة الربانية التي تبوء كل شيء مبوأه، وتنزل كل شيء منزله. فنحن فنرى كيف هذه الحروب التي تشن باسم الحرية ومن خلالها توأد الحرية وتصادر، ومن خلالها يضطهد الناس، تقتّل الأنفس ويشردون، ويُقضى على كرامتهم ويعود الناس لا قيمة لهم في موازيين هذه الأمم المتغلبة.
فعندما تكون الحرية حرية مطلقة هكذا تكون الفوضى في حياة الناس، ولكن الحرية لا بد لها من ضوابط، لا بد لها من ضوابط فكرية، ولا بد لها من ضوابط شرعية، ولا بد لها من ضوابط أخلاقية.
الله سبحانه وتعالى تعبد البشر، فالإنسان مهما كان ولو أوتي ما أوتي وكرم كيفما كما كرم هو عبد من عباد الله (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً) (مريم:93-95) هذا الإنسان لا يمكن أبداً أن يسعد في حياته هذه فضلاً عن الحياة الأخرى التي ينقلب إليها إلا عندما يكون موصولاً بربه متقيداً بما شرع، ملتزماً بدينه الحنيف.
من يتأمل في الأخطاء التي تقع فيها الشرطة والدفاع المدني وغيرها من القطاعات الحكومية ، يجد تعامل الناس مع أكثر هذه الأخطاء تعاملاً موضوعيا وعقلانيا ومعتدلا، فهم :
أولاً : يتثبتون من الخطأ ، ويتحققون من مصدره.
وثانيا : ينسبون الخطأ لصاحبه .
وثالثاً : لا يكون هذا الخطأ سبباً للطعن في الجهاز الحكومي ، أو الاستهانة به ، فضلاً عن الدعوة إلى إلغائه أو تهميشه.
ورابعاً: تراعي وسائل الإعلام حرمة هذه القطاعات ، وتحفظ لها مكانتها وقدرها ، فتجعل مساحة ضيقة للنقد الموجه لهذه القطاعات ، أو لأفرادها ، وتحجر على مساحة القصص والأخبار الشخصية من مواقف بعض الناس مع هذه القطاعات.
وهو تصرف حكيم في الجملة ، ويدل على وعي ونضج، لا تكون فيه هذه القطاعات في معزل عن النقد والتصحيح ، ولا يجعل من هذه الأخطاء ذريعةً للطعن في مصداقية هذه القطاعات ، أو هز ثقتها لدى المجتمع.
هذا التصرف الحكيم يتشكل في نماذج كثيرة ، من مراعاةٍ لأسلوب ، وتثبتٍ من خبر ، وتخفيفٍ من حدة ، ومطالبةٍ بالعدل .. الى غير ذلك .
إلا أن هذه الموضوعية والعقلانية تنسى نفسها ، وتنقلب عكساً فتقف على رأسها ، وتتشكل بلونٍ وشكلٍ جديد حين تكون هذه الأخطاء منسوبة إلى قطاع حكومي هو (( هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر )).
فأولاً : خذ ما شئت من الأخبار و ( الحكوات ) التي يتناقلها الناس ، ثم يصدقها من اختلقها.
وثانياً : خذ الوقاحة وسوء الأدب ، والنقد السوقي المنحط في التعامل مع هذه الأخطاء.
وثالثاً : خذ الاستغلال البشع والدنيء من وسائل الإعلام لتلك الأخطاء، فتعقد المؤتمرات ، وتحقق الدراسات، ويستنفر الصحفيون للبحث عن أي شيء قيل في هذه المشكلة
ورابعاً: تكون هذه الأخطاء ذريعة لبعض الناس ليتشفى من هذا القطاع الحكومي ، فمن مُطالبٍ بإلغاء الهيئة ، أو دمجها ، أو محاسبة كل أفرادها ، أو ا لتضييق عليها ، أو غيرها من الأمور التي يراها عقلانية ، ولو قالها في جهاز غير هذا الجهاز لعده الناس ضرباً من الجنون .
وخامساً : ينسى هذا الصنف من الناس جميع إنجازات الهيئة ، وجهودها العظام ، وما قدمت وبذلت مع قلة الإمكانيات ، وصعوبة العمل ، وضعف المحفزات.
هو تناقض صارخ ، وتنافر فاضح يدركه كل من كان عاقلاً من القوم ، فيبتدر بسرد بعض المبررات والأسباب التي يحاول بها أن يخفف من شناعة هذه الازدواجية ، فجاءت كعذر أقبح من ذنب ، كلما خرج مبرر لعن أخاه ، من غير أن يفصح لنا ما سر هذا التقلب.
قالوا مرة : الهيئة تستغل الدين ، وتخادع السذج من الناس.
ومرة لأن تتعدى على الحقوق.
وثالثة.. ورابعة..
ولا زالت الحقيقة غائبة.
الواقع والحوارات الميدانية تثبت أن سر هذا التناقض يرجع إلى سببين اثنين ، كل سببٍ يضم تحته طائفة من الناس:
السبب الأول : عدم الاعتراف أصلا بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والاعتقاد أن ذلك مخالفاً لحرية الرأي، وأنه تخلف ورجعية ، ونحو هذا من الانحرافات المصادمة لقيم الإسلام ومنهجه العام ، فموقفهم من أخطاء الهيئة موقف ناتج عن انحراف سابق ، لا يمكن أن نعالج الخلل الموضوعي مع وجود هذا الانحراف.
فهذا الصنف يؤمن بأهمية الشرطة والدفاع المدني وغيرها إدراكا منه لدورها وأثرها، وبالتالي يتعامل مع أخطائها بموضوعية ، وأما جهاز الهيئة فهو يمارس عملاً دينياً شرعياً، وهذا الصنف لا يؤمن أصلاً بأن الأحكام الشرعية تدخل ضمن نطاق الحياة ، أو يؤمن بها على غبشٍ ودخن.
وأنتم تعرفون جيدا من الصنف الذي يحتبي في هذا عباءة هذا السبب؟
السبب الثاني: أن جهاز الهيئة يقف في وجه شهوات بعض الناس ، ويحول دون عبثهم ومجونهم، ويلاحق كل مجاولات الإغراء والفساد ، فيهيج ثورانا ضد من يحول بينه وبين شهوته ،
أضف لذلك : أن المشكلات التي يتعامل معها رجال الحسبة قضايا تتعلق في كثير منها بالعرض والشرف ، ومن العسير جدا على الشخص أن يعترف بحقيقة فعله ، فلا حيلة من أساليب ( كنت مع زوجتي ، وخرجت مع أختي .. ).
أخيراً أقول ، وليحتملني من لا زال متحملاً :
إن جهاز الحسبة قائم على حفظ الدين ، وحماية العرض ، وصيانة الحرمات ، والمسلم النظيف يدرك جيدا أهمية العمل العظيم الذي يقوم به رجال الحسبة ، ويستشعر الأثر الكبير لهذه الجهود ، فلا يرى من المنطق والعقل أن ينسف كل هذه المجهودات لأجل بعض أخطاء رجالها ، وأما من كان يستقى من منابع متكدرة فلا غرو أن لا يتقبل حياة شرعية تريد للناس جوا نقياً صافيا.